مدنٌ على نمط واحد.. انتهى دور السائحة

02 يناير 2017
(أمام نصب الجندي المجهول في العراق، تصوير: جاك بافلوفسكي)
+ الخط -

عندما كنت في المتوسطة، كانت صديقتي تسافر لأقاربها في بغداد، وحين تعود تحدّثني عمّا فعلته هناك والأماكن التي ذهبت إليها، كانت تقول لي همسًا، إن شقيقتها الكبرى، ما إن تطأ أرض بغداد حتى تخلع الحجاب، كنت أتعجّب حينها وأسألها لماذا؟ فتجيبني، إن بغداد كبيرة ولا أحد يعرفهم هناك حتى يطلب من شقيقتي ارتداء الحجاب، كما أن بغداد مدينة فيها كثير من الفتيات اللواتي لا يرتدين الحجاب، وهذا يجعل عدم ارتداء شقيقتي حجابها أمرًا عاديًا لا يثير انتباه أحد.

تشعر الفتاة بشيء من الحرّية، حرّية تمنحها المدن التي لا تعرفنا ولا نعرفها، ولا نخضع لقواعدها وقوانينها المفروضة على سكانها، وهذا يحرّر من القيود، فيتصرّف فيها الإنسان كما يشاء دون أن يضع اعتبارًا لكلمة أو تلميح.

حدث هذا معي حين زرت المدينة التي أقيم فيها الآن، قبل سنة ونصف، رأيتها مدينة مذهلة، فيها كل ما يمكن أن يجعلني سعيدة، غربة مطمئنة ودافئة، طبيعة جبلية مدهشة، وسكّان متنوّعون، حملت الكاميرا يومها وصرت أتنقّل في الشوارع ألتقط الصور، للناس والأطفال والطبيعة، لكل شيء.. تصرّفت فيها كغريبة، كسائحة جاءت لتلتقط الصوّر، وتتحدّث مع السكان وتمازحهم، وتبحث عن الدهشة، دون أن تكترث لقواعد المدينة، فالسائح حرٌّ دائمًا.

عدت بعد ستة أشهر من زيارتي لها كسائحة، قادمة للإقامة فيها، ومنذ ذلك اليوم، فقدت هذا النوع من الغربة، الغربة المحبّبة التي تمنحك شيئًا من الحرّية لم تكن تشعر بامتلاكها في مكانك الأوّل، وكنت أتساءل دائمًا عن سبب فقداني هذه الحرّية البسيطة، فلم أعد أحمل الكاميرا وألتقط الصور بأريحية كما فعلت قبل أشهر، وصارت فكرة الحديث العابر مع السكان أكثر حذرًا، ما بقي فقط هو العلاقة الهادئة مع الطبيعة.

في الحقيقة، إن ما جعلني أعيش شيئًا من الحرّية عندما كنت زائرة فقط، هو ما تمنحه المدن لزائريها من تحرّر من سلطة المجتمع، والعادات والتقاليد التي تحيط بسكّانها المحليين، كنت زائرة لا تعرف قواعد هذه المدينة، ولذا منحت حرية في التصرّف أكثر مما لدى الناس.

لكن وما إن أقمت في المدينة وصرت جزءًا من مجتمعها، إن كان بالإمكان قول ذلك، خضعت لسلطة المجتمع المحلّي فيها، لقد انتهى دور السائحة الذي حظيت به، وجاء دور المقيمة التي تعرف الطرق والأماكن.

وجوابها على طرافته وغرابته، وما أثاره من حفيظة الناس الذين تناقلوه، لا يخلو من حقيقة وصدق، فالفتاة بالتأكيد لم تتحوّل للإلحاد بين ليلة وضحاها، ولم تنكر وجود الله قطعًا، لكنها اختصرت بإجابتها مسألة معقّدة، فالله هنا، هو سلطة المجتمع التي تُشعرك في كثير من الأحيان بأنها أوامر إلهية على الجميع إطاعتها وعدم عصيانها. وهذا حقيقي يحدث كثيرًا، وعندما خرجت الفتاة من مدينتها الأولى، تحرّرت من سلطة المجتمع، فاتّجهت للتصرّف بحرية لم تعهدها من قبل، ولم تمتلكها إلا عندما خرجت من مجتمعها الأوّل. يمكن من خلال ذلك، فهم إجابة الفتاة التي سُئلت قبل فترة قليلة: لماذا خلعتِ حجابك عندما قدمت إلى المدينة الكبيرة؟ حيث قالت ضاحكة إنها تشعر أن الله غير موجود هنا، وبذلك ليست مضطرّة للقيام بما كانت تقوم به سابقًا في مدينتها الأولى.

كما أن هذه الأمور تحدث غالبًا في المجتمعات الصغيرة والمغلقة، حيث تفتقد المدن الصغيرة أو القرى التنوّع، فيكون الناس فيها على نمط واحد، ولا يُتاح حينها لمن يريد اتّباع نمط آخر تحقيق ذلك إلا بصعوبة بالغة، أو قد لا يتحقّق، فكلما كان المجتمع صغيرًا وضيّقًا كلما صار من الصعب عليه تقبّل الاختلاف والتنوع فيه.

القضية شائكة ومعقدة ومثيرة للجدل، ولا يكمن إيجاد حل لها إلا بإيجاد طريق خاص بالإنسان، لا يكون خاضعًا فيه لسلطة المجتمع القاسية التي سترجمك إن خالفتها، ولا يقودك للقول، إن الله غير موجود.. إيجاد طريق يعرّفك على الحرّية الشخصية دون الانسلاخ من الهويّة.


(العراق)

المساهمون