يكتشف أطفال قطاع غزة وفتيته، في الفترة الراهنة، شغفاً مختلفاً عن كلّ ما عهدوه سابقاً، وهو السيرك الذي يشاركون في تدريباته بفعالية.
يستطيع اليوم أطفال قطاع غزة أن يمارسوا مهارات السيرك ويتقنوا بعضاً من ألعابه بأنفسهم. لم يعد مشهداً تلفزيونياً فقط، ففي إطار مبادرة "السيرك للجميع" التي تنظمها مدرسة غزة للسيرك، المنبثقة عن فريق سيرك غزة، يتعلم الأطفال مختلف المهارات، ويكتشفون ميولهم، بل يمثل متنفساً لهم في ظل ظروف الحصار الصعبة التي يعيشونها.
قصي مقداد (10 سنوات) يحب السيرك كثيراً، وخصوصاً عندما يحلّق مستخدماً الأرجوحة الهوائية المعلقة في حبل إلى سقف قاعة التدريب، بالقرب من منزله في حي الشيخ رضوان. حياته تتوزع اليوم ما بين مدرسته والسيرك، وكثيراً ما يطمح لأن يقدم عروضاً خارج غزة إن أتيحت له الفرصة مستقبلاً. يقول مقداد لـ"العربي الجديد": "أحب الطيران عالياً، أتمنى لو تدخل حصص السيرك إلى المدرسة حتى، فبعض الموادّ المدرسية مملّة، وكثيراً ما أخبر أصدقائي عن السيرك وكيف أتمرن فيه مختلف الحركات، حتى إنّ والديَ يشجعاني اليوم بعدما كنا يعارضان في البداية".
أما عدي تايه (9 سنوات) فينتظر أيام التدريب بفارغ الصبر. يمارس تمارين الإحماء الصباحية يومياً، ويقول: "السيرك عالم جميل، كنت أعتقد أنني أحتاج إلى وقت طويل حتى أقفز إلى أعلى، وأطوي ساقي فوق رأسي، لكنّي اليوم بتّ قادراً على ذلك، بعدما وصل السيرك إلى حيّنا في منطقة الشيخ رضوان".
تأسس فريق سيرك غزة عام 2011، وهو مكوّن من 12 شاباً غزّياً احترفوا العروض، وتلقوا تدريباتهم خارج غزة، في عدة رحلات لتطوير المهارات. يقول المدرب محيي الدين الحلو (26 عاماً) حول تأسيس الفريق، إنّ أعضاءه اجتمعوا على حبّ السيرك، وأيّدوا فكرة المؤسس ماجد كلّوب، الذي سافر بعدها إلى إسبانيا ليتدرب على عروض السيرك الاحترافية الدولية في إسبانيا، وما زال يرسل إليهم طرقاً وأساليب لتطوير عروضهم. يشير إلى أنّ السيرك يستقطب محترفين من مختلف البلدان، ممن يزورون القطاع، ويساهمون في تطوير أداء الفريق، وتدريب الأطفال. وقد تلقى الفريق والمدرسة دعماً من لاعبين من بلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وأيرلندا ساهموا في إنعاش العروض، وتمكنوا من جمع بعض التبرعات الرمزية لتطوير مدرسة السيرك ومبادرتها الحالية.
كان الفريق في بداياته يتدرب بشكل غير منظم في أماكن متفرقة، وكان يرافقهم 20 طفلاً استطاعوا غرس الشغف بالسيرك فيهم، وكبروا وتطوروا وأصبح بعضهم طلاب جامعات، لكنّهم ما زالوا يتدربون على العروض، وهو ما أسس للفكرة الحالية في نشر ثقافة السيرك لشرائح أوسع من أطفال غزة. يتحدث الحلو عن مبادرة "السيرك للجميع"، أنّها من تنفيذ مدرسة غزة للسيرك، وهي ممولة من شبكة الفنون الأدائية في رام الله، وتسعى لنشر ثقافة السيرك في جميع محافظات قطاع غزة، خصوصاً المناطق المهمشة، واستهدفوا من خلالها آلاف الأطفال، كما نظموا خمس حفلات في مدارس متفرقة، بإشراك أطفال من المدارس نفسها.
يضيف الحلو لـ"العربي الجديد" أنّ "مجتمعنا متعطش للسيرك، فالكلّ يعرفه من التلفزيون فقط، ويبني منه توقعاته لصعوبة العروض التي يقوم بها اللاعبون، لكن من أطفال غزة من يملكون مواهب التسلق وخفة الحركة والتنقل، ولديه ليونة عالية وذكاء في ابتكار حركات بهلوانية". ويتابع: "نرشدهم كذلك لصنع أدواتهم الخاصة بالسيرك، كالكرات التي يمكن أن يشكلوها بموادّ بسيطة كالبالونات والنايلون والطحين، وهنا يقتنع الطفل بأنّه يصنع إنجازاً، ويبدأ المرحلة التالية في اللعب بها بطريقة تتيح له تشغيل ذهنه وجسده أفضل". ويشير الحلو إلى أنهم ضمن المبادرة دربوا أطفالاً مرضى، يعانون من قصور الغدة الدرقية، وذلك عن طريق دمجهم بالأطفال الآخرين. كذلك، لدى السيرك فريق "الطبيب المهرج" الذي ينظم عروض التهريج والسيرك داخل مستشفيات الأطفال.
شرف المسلمي (19 عاماً) كان من أوائل المنضمين إلى فريق سيرك غزة عام 2011 وهو في سنّ 11 عاماً. تلقى تدريبات عديدة، وهو اليوم يدرب الأطفال، ويزرع حب السيرك داخلهم. لاحظ في بداية المبادرة صعوبة تقبل بعض أهالي الأطفال فكرة السيرك. يقول لـ"العربي الجديد": "الأهالي يتطلعون للفائدة المستقبلية لعروض السيرك من ناحية مادية. أهلي كانوا مغيبين عن رؤية الجانب الجسدي والنفسي، لكنهم اقتنعوا في النهاية". بدوره، يشير المدرب وعضو الفريق عبد الله عبيد (23 عاماً)، إلى أنهم نجحوا في إزاحة فكرة أنّ السيرك هو مجرد لعبة، وتكريسه، في المقابل، كمتفرغ نفسي وبدني للأطفال، بعيداً عن الشارع هذه المرة.