تكاد طنجة تكون المدينة الأكثر حضورا في جميع الروايات التي كان المغرب موضوعَها، ويؤكّد المتن السرديُّ الذي أُفرِدَ لها الولَعَ بفضائها وتاريخها الخاص. ويندرج إصدارُ الناقد مصطفى الورياغلي لروايته "جنة الأرض"، ضمن هذا الشَّغف، فهي- إلى جانب رواياتيْ آنْخِل باثْكيث Ángel Vazquez وقصصِه- روايةُ هذه المدينة بامتياز، لأنها تتعمَّق في مرحلة تُعتَبَر ذهبية في تاريخها، تلك الموسومة بالدَّولية، والتي خضعت فيها المدينة، دون باقي الأراضي المغربية، لوضع خاص في النظام الاستعماري.
طنجة "جنة الأرض" ليستْ مدينة مختلَقَة شأنَ "ماكوندو" غ.غ. ماركيز أو كومالا خوان رولفو، بل هي عالمٌ موجودٌ، يُعاد تشكيلُه روائيًّا بحيث يصير ساحةً لأحداث ووقائع متنوّعة تُراوح بين الحقيقة والخيال، وتتصارع فيها وتتمارج الذاتُ والآخر، الرغبة والكراهية، التاريخ والخيال، الذكريات والتنبّؤ. إنها المدينة التي نَعرف، لكنَّ تَوسُّلَ الروائي بالخيال والتاريخ في إعادة خلقِها أنْجَبَ لنا في وقتنا هذا عالَمًا داخل هذا العالم، أو بالأحرى، عالَما موازيا لعالَم آخرَ مضارعٍ لما كانت عليه طنجة الدولية، وأدخَلنا في جغرافية فريدة تنتفي فيها الحدود بين الجنسيات والأعراق والثقافات والطبقات الاجتماعية واللغات.
"جنة الأرض" حُلُمٌ سرديٌّ ممتَدٌّ حسب تعريف بورخيس للسَّرد، يَتَجاوز سذاجة الوقوف عند حدود المغامرة المعيشة لأحمد-هامث، أو العلاقة الغرامية الشيّقة التي استأثرتْ بجزء غير قليل من الحكي، والتي لا أشكّ في قيمتها وجاذبيتها، ومع ذلك فهي في تقديري الشخصي توابل تَضمن للرواية الاستئثار باهتمام القارئ، وإضفاء التشويق على الحكاية وتصعيد توتُّرها، خصوصا وأنها قصة تتقاطع مع حكايات ووقائع تعود إلى مرحلة الاستعمار-الحماية، والتي بلَغَتْنا- نحن أبناءَ جيلي- أخبارٌ عنها.
لكنْ ييبدو أن حكاية أحمد-هامث ليست سوى تعلّةٍ للحُلم بشيء آخر، لعله إعادةُ قراءةِ تاريخ المدينة، وتصييرُ الأخيرةِ مدينةً تُحكى روائيًّا Una ciudad novelada -وفق كارلوس فوينتيس- بقول شيء ما عنها "لا يمكن أن يُقَال بطريقة أخرى"؛ فالرواية شأن كل الفنون يُفترض فيها أن تقول شيئا، ويبقى لاجتهاد القارئ أن يلتقط منها ما يستطيع، بل وأن يستنطق منها ما لم يخطر ببال كاتبها.
"جنة الأرض" رواية محكيَّة بضمير المتكلّم، يسعى فيها الروائيّ إلى اقتراح بديل اجتماعي لا يخلو من تصحيح وضعية فريدة عاشتها طنجةُ الدَّولية، ميَّزها كثير من التعايش والتفاهم والحبّ، وطبعها غير قليل من الظلم والإهانات. رواية تتعمَّق في تجربة الحب، التي قد تقود الأفراد عبر مسارات غير متوقَّعة، و توقفُنا على ردود فعل من الكائن البشري في اللحظات الحاسمة، لا تُرتقب أبدا، وهي بهذا رواية موقف نقديّ ما بعد كولونيالي بامتياز.
وليس مجازفةً الذهابُ إلى أن خطابَ "جنة الأرض" ما بعد كولونيالي، على الرغم من أن الأخيرَ دُئِبَ على كتابته بلغة المستعمِر، فهو خطابٌ همُّه الأساسُ كان تطويرَ خطابِ مُقاومةٍ معارِض، دفاعا منه عن ماض اغتُصِبَ، ولاستعادة تُراث الأسلافِ المغبون والتعريف بثقافتِهم، عَبْرَ تفكيك الإيديولوجيّة الاستعمارية التسلطية.
لقد سُرِدتْ حكايةُ طنجة البابلية، أي "جنة الأرض"، بلسان عربيّ بليغ، لأن العربية كانت من بين لغات عديدة كانت تتعايش في المدينة شأن البَشَر بها، ولأن الترجمة في زمننا هذا كفيلة بأن توصل صوت الروائي إلى الآخر، فإنَّ شرط الكتابة بلغة المستعمِر ليس ضروريا، على اعتبار أن أوروبا نفسَها الآن تُقرّ بأنَّ لغتها الرسمية هي الترجمة.
خرجت أوراق هامث من "الصومعة" تحديداً، برمزيتها التي تُفيدُ القداسةَ والعُلُوَّ والإشراف والنّداء، مكتوبةً بالعربية لتؤكِّد على شرْط الهُجنة الذي يَطْبعُ من جهَتِه الخطاب ما بعد الكولونيالي هو الآخر، فيكون اختيارُ العربية لغةً للروايةِ أوَّلَ رسالةٍ انتقاديَّةٍ تُوجَّهُ إلى الخطاب الكولونيالي، الذي لم يكن يُعر اعتبارا لكل ما هو مغربي، ويكفي دليلا الفصل السادس "فيلا هاريس"، حيث لم يكن حضور المندوب المغربي ومن معه سوى تأثيث بروتوكولي، في حفلة أقامتها الكونتيسة، واستدعت إليها أعيان المدينة وهيئاتها السياسية. في هذا الفصل أيضا استُحْضِرتِ السيدة الفرنسية التي وصفت حال طنجة بقولها إنَّ "الإنجليز يسودون، والفرنسيين يحكمون، والإسبانَ يعملون، أما المغاربة فلا وجود لهم".
لا تتوقف الرواية عن تفكيك الخطاب الاستعماري المتعالي عند هذا الحد، إذ تلتفت إلى بعض صوره النمطية مثل تلك التي تخص الجنس عند الشرقيّ، فتفنّد ذلك ("خُذني مثل المسلمين! خذني بقوة ووحشية! أنا أَمَتُك! أنا جاريتك!" عندئذ علمت أني لست في نظرها إلا متوحّشا في ثياب الحضارة).
تَعْرض علينا "جنةُ الأرض" عبر التخييل جوانب من تاريخ طنجة، لم يُتطرَّق إليها من قبل في الروايات التي أُفرِدتْ للمدينة. وعلى الرغم من أنها عمل فني وليست وثيقة تاريخية، فإن لها مع ذلك حقيقةً تقولها، وتدعونا إلى اكتشافها عبر إبداء استعداد للفهم، أو كما يقول غادامير "نحن لا يمكن أن نفهم إلا إذا كنا نريد أن نفهم، أي لا يمكن أن نفهم دون أن نُتيح لشيء ما أن يُقال لنا".
إنّ هذا الشيءَ الذي تُريد "جنة الأرض" قولَه هو أنَّ ماضي طنجة الكوسموبوليتاني يُمكنُ أن يُستردَّ، وأن تجربة التعايش وفق معايير جديدة قابلةٌ للتحقُّق مُستقبَلا، وأن المجتمع الطنجيّ على استعداد لاحتضان الحلم البابليّ مجدَّدا، حُلُم البشرية الذي تتلاشى فيه الحدود ويختفي التنابذ والإقصاء، إنها دعوة صريحة إلى التعايش والتسامح، باعتبارنا مواطني هذا العالم.