مخالب الطائفية وأنيابها

24 ديسمبر 2015
+ الخط -
أتيح لي، بمناسبة مشاركتي نهاية الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول الجاري، في الأنشطة الثقافية لمعرض الكتاب في بيروت، أن أتابع، على هامش هذه الأنشطة، جوانب من الأوضاع العامة في لبنان، حيث ما زال موضوع انتخاب الرئيس مُعلقاً، وحيث يستمر تفاقم تدهور الأوضاع في سورية، ويتخذ مسار الصراع فيها، في الآونة الأخيرة، أبعاداً دولية تُنْذِر بانفجارات أكبر.
حَرِصْت مدة إقامتي في بيروت على متابعة السِّجَالات الدائرة في القنوات التلفزيونية، التابعة لتيارات سياسية مختلفة، ما مكّنني من معاينة صوَر ومواقف لم أتصوَّر أنها يمكن أن تتواصل بالصورة نفسها في لبنان، على الرغم من كل التحوُّلات الجارية عربياً وعالمياً.
وفي متابعتي النقاش الدائر في موضوع اختيار رئيس الجمهورية، في دولة تُقِرُّ بالتقسيم الطائفي لنظامها السياسي، تأكَّدت، بالملموس، بأن مَخَالِب الطائفية تهدِّد ما تبقَّى من لبنان، فالإقرار بالطائفية لا يعفي من تبعاتها السلبية، بل يضاعفها، ويصنع في قلبها حواجز جديدة، مانعة للتواصل والاندماج والتضامن والوحدة الوطنية.
كنت وأنا أسمع حديث تلفزات الطوائف أستعيد مآثر رجالات الفكر والنهضة في لبنان، فقد كانوا في طليعة النهضويين العرب، وشَكَّل إسهامهم الإصلاحي اللبنة الأولى في مشروع التمهيد لتوطين قِيم التحديث السياسي في الثقافة العربية. بل تحفظ الذاكرة الثقافية لعصر النهضة لأسر عديدة في لبنان، وفي الشام الكبرى، أدوارها في تجاوز التقليد في الفكر العربي المعاصر، فكيف نفسر استمرار معاناة اللبنانيين من أنياب الطائفية وويلاتها؟ بل كيف نفهم تفاقم مثل هذه الظواهر في الفكر والمجتمع العربيين؟
يُبْرِز الشلل السياسي الحاصل في لبنان أن نخبه السياسية لم تستطع تجاوز وتخطي قيود الطائفية التي رتَّبت انطلاقاً منها صورة نظامها السياسي، في زمن آخر نفترض أنه مختلف عن شروط الحاضر وسياقاته. لم تدرك، إلى اللحظة، أن الانفجارات التي أسقطت، قبل سنوات، أنظمة سياسية بعينها، تدعوها إلى إعادة النظر في أسس مقوِّمات نظامها السياسي، فقد أصبح يُشَكِّل اليوم عائقاً يحول بينها وبين العمل الهادف إلى تدبير مصالحها وصراعاتها السياسية والثقافية، إضافة إلى عوامل أخرى، لا مجال هنا لذكرها.
أصبح مؤكداً اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى، أن الانفلات الطائفي، وقد شمل اليوم بلدانا
عربية عديدة في المشرق والمغرب العربيين، يُفْضِي إلى تفتيت الدولة، ويمارس، في الآن نفسه، عملية تقويض لمقومات المجتمع. كما يضعنا أمام انعدام قدرة الدول القائمة على مجابهة تحديات التنمية وأسئلة الإصلاح السياسي الديمقراطي. وقد ترتب عن الضربات القوية التي لحقت الدولة، في أغلب المجتمعات العربية، نتيجة الظروف التي تلاحقت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، ما ضاعف هشاشة جسمها المتمثل في أنماط تسلطيتها، والمتمثل، أيضاً، في عدم قدرتها على بناء شرعية مكافئة لتطلعات مجتمعها ونخبها. ومن دون إغفال علاقة ذلك كله بطبيعة الصراع الدولي والإقليمي القائمين في المشرق العربي، منذ نحو قرنين.
لا يتردَّد المشاركون في البرامج التلفزية الحوارية المتعلقة بموضوع فراغ منصب رئاسة الجمهورية في لبنان، لا يترددون في النطق بمواقف وأحكام، لا تُفهم إلا بحسابات الطائفية في درجاتها الدنيا، أي درجات ما قبل المجتمع الواحد الجامع لمكوِّنات اجتماعية عديدة. كما لا يتردَّدون في القول الواضح والصريح إن قرار انتخاب الرئيس في لبنان لا يُعَدُّ شأناً لبنانياً فقط.
لم أستطع فهم لازمة تكررت في السجالات في أغلب القنوات، يتعلق الأمر بأن الفراغ الرئاسي يعود إلى جملة من المعطيات الدولية والإقليمية، ويتعلق بعدم مشاركة البطريرك في مساعي جمع الأطراف المسيحية بهدف التوافق والاتفاق. لكن المشكلة، هنا، أن الطوائف لا تستطيع محاصرة تَدَرُّرِها الذي يمتلك القدرة على الانقسام اللامحدود، ويزداد تعقُّد الأمر عندما يشترط الفريق الذي لا يقدم مرشحاً للرئاسة على أن يقوم من يقدِّم مرشحاً بفك علاقته بدوائر الطوائف الأخرى، فتتناسل الحكايات الطريفة والمسلِّية، ويُضَيِّع المشهد السياسي اللبناني مآثر تراث وتاريخ ومجتمع، فنتأكد من أن الانسداد الحاصل في الموضوع اليوم لا يمكن فك خيوطه، إلاّ بفك شوكة الطائفية وتبعاتها.
مرّت خمس سنوات على الانفجارات والتحوُّلات التي عرفها ويعرفها العالم العربي، إلا أن الأوضاع العامة السائدة في بلدانٍ كثيرة ما تزال تعمل وتتحرَّك بآلياتٍ لا يمكن فصلها عن طبيعة ما كان سائداً قبل حراك 2011 وتداعياته المتواصلة. فها نحن نلاحظ كيف يختلط الوضع السياسي في لبنان، وتُبْرِز تحليلات الفاعل السياسي والإعلامي المُواكب لما حصل ويحصل، استمرار تحصنهما بمواثيق ومفردات يعرفان، أكثر من غيرهما، إفلاسها ومحدودية النتائج المترتِّبة عنها. ومع ذلك، هناك من يشير إلى أن الأمر، في النهاية، من تدبير فاعلٍ متآمر. لكن، من يتآمر على من؟

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".