وبكل بساطة، لا يريد حوراني للعنوان الاكتفاء بدوره عتبة نصية، بل أن يصبح بحد ذاته جوهر الموضوع، ليصبح السؤال لماذا يعلن عرض حاجته الماسّة إلى جمهور؟
يجد السؤال نفسه سليل أسئلة صارخة، لعباد تناهبهم الموت والسجن والتشريد، تحت أنظمة لم تفلح في شيء قدْر إهانة الإنسان، ومحاولات ممنهجة للتطبيع مع الإهانة.
فإذا صحْتَ بملء الذراعين: أين الإنسانية؟ وأين أصحاب الضمير؟ وأين الصحافة؟ وربما تفقد عقلك فتنادي "أين الجامعة العربية؟"، كل ذلك لأنك بحاجة ماسّة إلى من ينصت إليك، "لأن موتاً طائشاً ضل الطريق إليك، من فرط الزحام.. وأجّلك".
على خشبة متواضعة يمكن للعرض أن يبدأ، في حوش أو شارع، كما يمكن أن تحتفي به أشهر المسارح الأوروبية، وبتقنيات باذخة.
يستطيع حوراني ورفاقه الذهاب إلى أي مكان، ليرووا بمسرحهم الصامت، الإيمائي كيف تعبث السلطة الغاشمة بحياة المواطنين.
قطع كرتونية كافية لكي تجرّك إلى مكان عامر بسكّانه، وحاراته وأحواشه. حيوانات أهلية من كرتون، الدجاجة التي تُقصف، والكلب البوليسي الذي كان يحرس الحكايات الريفية، وصار يحرس قيم النظام من مواطنين "أشرار"... كل ذلك كرتون.
والبشر على المسرح صامتون عن الكلام إلا في عبارتين تفلتان عند اندلاع الجحيم، لكن ما خلا ذلك، فإن الجسد البشري هو من يروي الحكاية، على قدر المساواة مع أدواتهم المنزلية، كطشت الغسيل وحقيبة السفر، يحاط كل هذا بالأصوات المجردة، وصولاً إلى المشمّع، مجرد مشمّع، سيلعب دور البحر، وهو يصطاد الهاربين لآخر مرة من برّهم الذي ما زال يرى بالعين.
هذه هي حكاية المسرحية: المأساة التي يديرها المستبد، والطرطور على رأسه المثير للتهكم والضحك، ثم المأساة من جديد.
وهذا ما يواجهنا به الممثلون، الياس العبيدي من تونس، وأحمد عيسى، الفلسطيني من مخيم الجليل في لبنان، ، ومحمود حوراني الفلسطيني البريطاني، وكريسنتي افلونيتي اليونانية.
شخصان يلهوان بالكرة بينهما، ويلعبان الشدّة (ورق اللعب)، ويتصارعان على بيضة دجاجة، ولكن حين تبيض واحدة أخرى يضعانهما على قش، لعلهما تفقسان.
كل هذه الحياة الطبيعية، بما فيها من منسوب مقبول للمكاسبة، والتعسف والحسرات التي تتسع لها الرئة، تتوقف بعنف مع هجوم السلطة فجأة على الحياة. لا يبدو توافق مواطنين على التشارك في بيض الدجاجة، والمكنسة، وورق اللعب، أمراً مريحاً لأجهزة النظام.
يبدأ البوليس بالهجوم عبر كلابه، ووسائل الإعلام تقتل الشعب رمزياً حين تنزع عنهم صفة المواطنة، قبل أن تملأ الصواريخ سماء الوطن، الذي لن يعود وطناً بالنسبة لأحد الصديقين على خشبة المسرح.
يقرر مغادرة البلد نهائياً، ويقف شريكه في الوطن وفي بيض الدجاج واللعب وعشرة العمر أمامه، كي لا يرحل.
الحقيبة تفر منه، تريده أن يبقى، لكنه يقف على شاطئ البحر منتظراً السفينة. وحين يلمحها يمسك حقيبته ويقبض عليها بذراعيه حتى لا تفر ثانية.
كل ذلك سينتهي بالمشهد البحري على صوت اليرغول، حيث سيبتلع الموج مواطناً، ثم يرمي جثته، مصادفةً إلى أي شاطئ.
يقول محمود حوراني لـ "العربي الجديد" إن كل جولة للمسرحية في العالم، تشعرنا بغصة، لغياب أحد أركان العمل، وهو السوري خليل عبد الله، من إحدى قرى حلب، والذي لا يستطيع مرافقتنا لأنه بلا جواز سفر. لذلك أينما كنا، فإن مسرحيتنا، تحية خاصة لخليل.
عن الصمت الأبجدي، والكائنات الحية "غير العاقلة" والجمادات الناطقة بلغتها الأم، يشير حوراني إلى العلاقة الإبداعية بينها.
يقول إن الصمت الأبجدي يفتح للممثل إمكانيات عميقة للتعبير بجسده، بما يعوّض غياب الكلام، بل أبعد من ذلك، ما لا يقوى الكلام على بلوغه، مذكراً بأن الصمت والإيماء لغة كل العالم، التي لا تحتاج لترجمة.
ويفضل حوراني خروج الممثل من قناعه الأسود أو من الصندوق، ليكون موجودًا وغير موجود. كيما تتحول الأشياء كالكراسي والملاعق والستائر إلى "ممثلين" نكون أمام حل، وهو تغييب الشخصية الآدمية بإلباسها قناعاً أسود، حتى تكون الأشياء مستقلة دون إدارة بشرية، واضحة للعيان.
وعليه، يرى حوراني أن على الممثل الظهور بلا قناع، ووضع مشاعره كلها في الدمى أو الأشياء، وأن يتلاشى حضوره، وهو –على سبيل المثال- يمثل مع ملعقة حزينة تريد أن تنتحر، أو كرسي يهرب من طاولته.
قدّم "عرض مسرحي بحاجة ماسّة إلى جمهور" لأول مرة في مسرح مترو المدينة، بدايات 2016، ثم مهرجان قرطاج، وعرض آخر في صفاقس بتونس، وانتقل بعدها في جولة أوروبية ومنها المهرجان الدولي للدمى والعرائس في برلين، ومسرح تشيلسي في لندن، ومسرح بوزار في بروكسل.
قبل ذلك قدمت المؤسسة العربية لمسرح الدمى والعرائس عملاً بعنوان "الهدية" التي كانت فيلاً مهدى من هارون الرشيد إلى شارلمان، ملك الفرنجة، والنص من كتابة هدوى الشوا القدومي.
وهذان العملان وغيرهما يشيران إلى أن مسرحي الدمى والظل والخيال، مسيسان في عمقهما. ولا يمكن ذكرهما دون المرور على دورهما السياسي، وخصوصاً محاربة المستعمر والمستبد، مذكراً بأن أشهر كاراكوز في الجزائر وهي تحت الاستعمار الفرنسي، كان يحمل عصا طويلة ويمثل كيف يطاح بالجنود الفرنسيين مثل أحجار الدومينو، يضيف حوراني.
غير أن البناء التربوي والتوعوي، مهمة يضطلع بها المسرحي أمام أطفال، نريد لهم أن يذهبوا إلى المدرسة ويعودوا سالمين. لذلك عرف حوراني ومجموعته في العالم العربي من خلال عروض الدمى للأطفال، برعاية اليونيسيف، في محاربة التنمّر والعنف، مقابل تشجيع القراءة.
ويخبرنا بالخصوص، عن التجربة الأبرز خلال السنوات الثلاث الأخيرة، مع عروض الدمى لأطفال المخيمات الفلسطينية في لبنان، بالتعاون مع الأونروا، ووصل جمهور الأطفال سنوياً إلى 36 ألفاً.
أما عن دور المؤسسة، فأوضح أنها مبادرة لعمل مظلة مسرح دمى عربي، لتجاوز واقعه المتشرذم الآن. ومن ذلك يشير إلى المؤسسة توفر إقامات فنية ومناهج رسمية في لبنان وسلطنة عمان والأردن لرفع مستوى المشتغلين في هذا المسرح.