قلّما حظيت تجربة غنائية عربية في الثلث الأخير من القرن العشرين بفرادة مثل تلك التي حازتها تجربة محمد منير (1954)، إذ رسمت هويته النوبية ملامح فنّه الأساسية، فاجتمعت حنجرة ذات ميراث قديم في حوض النيل وموسيقى الجاز مع السلّم الخماسي النوبي.
ظهر محمد منير جبريل متولي بعد أعوام قليلة من وفاة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش كبار الأغنية الشرقية، لنحت طريق غير مألوف، ليس ببنيته الموسيقية فحسب، بل بكلمات خارج المسار العاطفي المألوف، فبدأ منير يغني لحبيبة لها ملامح وطنية واجتماعية.
قال لها في بداية مشواره: "علموني عنيكي أسافر.. علموني أفضل ما أهاجر". وأثبت أن الغناء يمكن أن يقول: "شبابيك الدنيا كلها شبابيك والسهر والحكاية والحواديت.. كلها دايرة عليك والكلام كان كان عليك".
وجد الجمهور وقتها في روح هذه التجربة طزاجة لم يعهدوها مع غيره، هكذا طوال عقد كامل من نهاية السبعينيات وحتى عام 1988، وجمهور الفتى النوبي في ازدياد، حتى قرر أن يعتلي خشبة المسرح في خلفية مسرحية "الملك هو الملك" ليغني من كلمات أحمد فؤاد نجم، وليصيح الجمهور بعدها: محمد منير هو الملك.
هكذا يمضي مشوار الملك، ويتحول جمهوره إلى "طائفة" لم تفصل بين منير ومشروعه، خصوصاً مع عنونته لأسماء ألبوماته بتعابير تحمل في مضمونها معاني الثورة واستخدامه كلمات مثل: "حرية".
غير أن منير العقد الأخير، غير منير السبعينيات والثمانينات، فقد خسر من شعبيته حين خرج على جمهوره في 2010 بأغنية ركيكة، "في حب مصر"، التي كانت عملاً ترويجياً للحزب الوطني الحاكم في ذلك الوقت، وغضب جمهور منير على هذه "السقطة" التي تخالف مشروعه ومشروعيته لديهم.
لكن رياح الثورة هبت سريعاً في 2011، والثورة تجبّ ما قبلها، فكانت أغنية منير "إزاي" هي صوت الجموع أيام الاعتصام الثمانية عشر، لم تصمت الأغنية طوال هذه الفترة، كأنها جاءت عربون مصالحة على سقطة أغنية الحزب الوطني.
أما منير ما بعد 30 يونيو 2013 فهو شخص آخر. تحوّل المشروع الفني الثوري إلى السهل والمطروق فنياً والهابط سياسياً بعد أن قدّم أغنية من ألحان عمرو مصطفى، أحد معادي الثورة وأبواق النظام القديم/الجديد، يتبنى فيها خطاب الدولة الرسمي الذي خرج على لسان السيسي "نصحى من 5 الصبح عشان نشتغل"، ثم أضاف إلى ذلك ظهوره الأخير في كليب "مصر قريبة" الدعائي الذي اعتبره كثيرون "مهيناً" لمصر التي تغنى بها صاحب "الليلة يا سمرا" طوال ثلاثين عاماً، ومع كل ما قد نختلف ونتفق فيه مع منير فنياً أو حتى سياسياً، غير أن الأكيد أن منير "مصر قريبة" لا يمت بصلة إلى منير "بنتولد" و"المدينة".