عندما أُعلن عن رحيل محمد ديب في مدينة سان كلو بضواحي باريس قبل سبعة عشر عاماً، وتحديداً في مثل هذا اليوم من عام 2003، كانت دهشةُ كثير من الجزائريّين كبيرةً؛ إذ كانوا يعتقدون أنَّ الروائي الجزائري رحل منذ زمنٍ بعيد، مثل مولود فرعون وأحمد رضا حوحو وغيرهما، بل إنَّ بعضهم كان يعتقد أنه من شهداء الثورة الجزائرية (1954 - 1962).
مردُّ ذلك هو ابتعاد ديب، الذي وُلد في مدينة تلمسان غرب الجزائر عام 1920، عن المشهد الثقافي والإعلامي في بلاده التي غادرها إلى فرنسا عام 1959، وإنْ ظلَّ يعود إليها في فتراتٍ متقطّعة، كما بقي مُلتصقاً بها في أعماله الأدبية والصحافية، وقد اعتُبرت روايته الأشهر "الحريق"، التي نُشرت قبل ثلاثة أشهر من اندلاع الثورة التحريرية، بمثابة نبوءة بها؛ وهو الذي رصد في كتاباته بجريدة "الجزائر الجمهورية" المقرّبة من "الحزب الشيوعي الجزائري"، خلال إقامته في الجزائر العاصمة بين 1950 و1952، الظروف المعيشية للجزائريّين تحت الاحتلال الفرنسي والحركات الاجتماعية في البلاد.
كانت "الحريق" (1954) ثاني روايةٍ ضمن ثلاثيةٍ تكاد تكون الأشهر في الأدب الجزائري المعاصر، وتضمُّ أيضاً "الدار الكبيرة" (1952)؛ أولى رواياته، و"النول" (1957). وهذه الثلاثية هي ما جعل شهرةَ ديب تتجاوز النخبة إلى جمهور أوسع؛ فقد عرفها الجزائريّون في شكل مسلسل تلفزيوني بالأبيض والأسود أخرجه مصطفى بديع عام 1974، وأُعيد بثُّه مرّات كثيرة بعد ذلك الوقت، كما أنَّ مقاطع مطوَّلةً منها كانت مقرّرة في المناهج الدراسية للمرحلة الإعدادية، حتى التسعينيات، باللغة الفرنسية ومترجمةً إلى العربية.
لا يكاد اسمُ ديب يُذكَر إلّا مقترناً بأشهر شخصيات روايات "ثلاثية الجزائر"، والتي صوّر فيها حال الجزائريّين عشية الحرب العالمية الثانية؛ مثل الطفل عُمَر، ولالا عيني، والكومندار، وحميد سراج. وقد أسهم المترجم السوري الراحل سامي الدروبي (1921 - 1976) في تعريف ديب إلى القارئ بالعربية، في الجزائر وفي سائر البلاد العربية، حين ترجم ثلاثيته، وإنْ شابَ ترجمتَه العديدُ من الأخطاء، خصوصاً في نقل أسماء الأعلام (الأماكن والأشخاص) الجزائرية من اللغة الفرنسية.
والمؤكَّد، أيضاً، أنَّ النظام السياسي الذي حكم الجزائر بُعَيد الاستقلال لعب دوراً في شهرة تلك الثلاثية التي كانت تتقاطع بشكلٍ ما - غير مباشر بالتأكيد - مع أيديولوجية الدولة الجديدة؛ الاشتراكية كنظامٍ اقتصادي وسياسي مِن جهةٍ، ومناصرة الحركات التحرُّرية من جهةٍ أُخرى.
لعلَّ المتوقَّع من كاتبٍ برع في تصوير هموم الشعب الجزائري تحت الاستعمار ورصْد الإرهاصات الأولى لاندلاع الثورة التحريرية أنْ يكتُب أعمالاً تنخرط في أيديولوجية الدولة الحديثة، مثل كتّابٍ آخرين تعكس أعمالُهم تلك المناخات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكنّه سيختار القطع مع "الواقعية" التي حقّقت له انتشاراً أفقياً في تجاربه الأولى؛ ليبدأ تجارب جديدةً مهجوسة بالأسئلة الوجودية؛ كما "إله وسط الوحشية" (1970)، و"سيد القنص" (1973)، و"هابيل" (1977)، وكما ثلاثيته الثانية "ثلاثية الشمال" (سطوح أورسول 1985، وإغفاءة حوّاء 1989، وثلوج المرمر 1990).
واللافت أنَّ الكاتب الذي ظنّ كثيرون أنه كان ميتاً قبل 2003، لم ينقطع عن الكتابة وظلَّ يُصدر أعمالاً تعدّدت بين الرواية والقصّة القصيرة والمسرح والشعر وصلت إلى قرابة ثلاثين مؤلّفاً، ويُترجِم من الفنلندية إلى الفرنسية، بل إنّه أصدر روايةً ومجموعةً قصصية في سنة رحيله نفسها، وصدرت له مجموعة قصصية أُخرى في 2006؛ أي بعد مرور ثلاث سنوات على رحيله.