تدخل سارة (زهراء غندور) محطة قطارات يُعاد افتتاحها في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2006، في اليوم الأول من أيام عيد الأضحى المبارك. الهدف؟ تفجير انتحاري. لكنها، بلقائها سلام (أمير جبارة)، تبدأ مرحلة الانقلاب على ذاتها، خصوصًا بعد لقائها شخصيات مختلفة تسعى إلى مواجهة التحدّيات كلّها.
اختير الفيلم لتمثيل العراق في التصفيات الأولى لجوائز "أوسكار"، وتبدأ عروضه التجارية اللبنانية في 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2018. وهو يأتي بعد عدد من الأفلام المهمومة بالعراق وتحوّلاته وأحوال ناسه في الأعوام الفائتة، كـ"أحلام" (2005) و"ابن بابل" (2009) و"في أحضان أمي" (2011) و"تحت رمال بابل" (2013) وغيرها.
بمناسبة إطلاق العروض التجارية لـ"الرحلة" في بيروت، لقاء مع الدراجي حوله وحول آليات اشتغاله السينمائيّ:
(*) كيف بدأتَ كتابة "الرحلة"، الحاصل على دعم من "مؤسّسة الدوحة للأفلام" و"الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)" و"صندوق هولندا للفيلم" و"المعهد الفرنسي" التابع لوزارة الشؤون الخارجية والتنمية الدولية الفرنسية" وغيرها؟ من أين تكوّنت لديك فكرة سرد حكاية عن شابّة مُكلَّفة بتنفيذ عملية انتحارية تُبدِّل رأيها فجأة قبل لحظات من الموعد المحدّد للتفجير؟
ـ هذا حاصلٌ عام 2008، أثناء تصويري "ابن بابل" في بغداد. حينها، رأيت صُورًا لشابّة يتراوح عمرها بين 18 و19 عامًا. كان رجال الشرطة يمزّقون ثيابها بعد ربط يديها بالسياج الحديدي لمبنى المركز الخاص بهم. كان أحدهم يعمل على تفكيك حزام ناسف لفّت نفسها به. الشابة خائفة. شعرتُ أن في عينيها شيئًا غريبًا لم أتمكّن من تحديده لحظتها. الصُوَر تعكس هذا كلّه. كنتُ أتأمّل عينيّ الشابّة الجميلة للغاية.
القصّة حقيقية. شابّة مُكلَّفة بتفجير نفسها لقتل أكبر عددٍ ممكن من الناس في مقرّ للشرطة العراقية. لكنها، قبيل لحظات من موعد التفجير، أخبرت شرطيًّا بأنها تحمل حزامًا ناسفًا، وبأنها ستُفجِّر نفسها. طلبت مساعدته، فهي كما يبدو متردّدة عن تنفيذ المهمّة في اللحظة الأخيرة. فاجأتني الحادثة. الشابّة جميلة، لكنها تريد قتل نفسها وقتل الآخرين.
بعد "ابن بابل"، بدأتُ البحث في موضوع الانتحاريات في العراق والعالم. نقلت القصّة إلى محطة للقطارات وقرّرت تصوير فيلم عن تلك الشابّة داخل مبنى المحطة وفي عوالمها ومع ناسها وأحوالهم. قرّرت عدم الرجوع إلى خلفية الشابّة، مُقدِّمًا إياها في المسافة الزمنية بين لحظة دخولها المحطة بنيّة تفجير نفسها وقتل الناس، ولحظة اقتناعها الذاتي الداخلي بالعودة عن قرار التفجير. المشروع برمّته مرّ بمراحل مختلفة بين عامي 2008 و2010، مع بداية كتابتي أول نسخة من النصّ السينمائي. بين نهاية 2015 ومطلع 2016، بدأت تصوير "الرحلة".
لكن أكثر المراحل إرباكًا وقلقًا لي حدثت معي عام 2012: أول نسخة مكتوبة تضمّنت حالتي إزاء هؤلاء الذين يفجّرون أنفسهم لحصد أرواحٍ بشرية. أردتُ الانتقام منهم سينمائيًا عبر شخصية سارة (زهراء غندور). ردّة فعلي إزاء كلّ عملية انتحارية مزيج غضب وحقد على منفّذيها. أردتُ محاكمة الانتحاريين في فيلمي. النص الأول خالٍ من التعاطي الإنساني ـ البشريّ معهم بشكل كامل. لكن، بعد كتابة وتفكير واشتغال على الموضوع، زرتُ سجنًا للنساء في بغداد تمّ اعتقال إرهابيات فيه. هناك، التقيتُ 3 منهنّ، إحداهنّ شابّة جميلة جدًا وذكية جدّا، تبلغ 19 عامًا. تكلّمَتْ معي من دون مواربة أو كذب أو احتيال، بل بوضوح وصراحة. لم تكن عيناها ترمشان. هذا ليس من طبيعة الانتحاريات اللواتي ينظرن إلى الأرض وهنّ يتحدّثن مع أحد، أو إلى جانبه. أما هي فمختلفة تمامًا عنهنّ. نظرَتْ إليّ مباشرة كواثق من نفسه وأفكاره للغاية.
اقــرأ أيضاً
(*) ما الذي حصل لاحقًا في الكتابة؟
ـ راجعتُ كتابتي الأولى. أعدتُ التفكير مليًا بالموضوع. فكّرتُ بالانتحاريات وبكيفية نظرتي إليهنّ. سألتُ نفسي: أليس معقولاً أن تكون إحداهنّ زوجتي أو حبيبتي أو صديقتي أو شقيقتي؟ أليست الانتحارية امرأة، أي كائنا بشريا ـ إنسانيا؟ لقائي هؤلاء الإرهابيات الـ3 مهمّ للغاية، إذْ جعلني أغيِّر نظرتي إلى المسألة وإلى كيفية معالجتي الموضوع في فيلمٍ سينمائي، انطلاقًا من عدائي الشديد لسلوكهن وتبريرات قراراتهن تلك.
(*) المُلاحَظ أنك تعاملت مع سارة كشابّة لها انفعالات.
ـ في البداية، ألغيتُ أنسنتها. هؤلاء، بالنسبة إليّ، لا يحبّبن الحياة. بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، أصبح الإرهاب فكرًا تجعله حكومات ومجتمعات سببًا لشنّ "الحرب على الإرهاب". لكن المشكلة أن تلك الحرب لم تقضِ على الإرهاب، بل زادته حضورًا وانتشارًا وجعلته ثقافة جديدة. عندما أردتُ التعامل مع موضوع كهذا في فيلم سينمائي، فتّشتُ عن أشرطة فيديو تتعلّق بمنفّذي عمليات انتحارية إرهابية. في غالبيتها الساحقة، يتّصل الإرهابيّ بوالدته قبل وقت قليل على موعد تنفيذ العملية. هؤلاء يريدون أحدًا قريبًا جدًا منهم للتحدّث معه قبل تفجير أنفسهم. إذًا، داخل كل واحد منهم إنسان ما. هذا ما أثارني أكثر من رغبتي في الانتقام منهم سينمائيًا.
هناك 4 نماذج من الانتحاريين: أولاً، المؤمنون الذين لديهم إيديولوجيا يتمسّكون بها. هؤلاء صعبٌ التعامل معهم، فكلّ شيء فيهم مُنغلق على نفسه. لا يُناقشون ولا يُبرّرون ولا يتيحون لأحد التواصل معهم. ثانيًا، الخاضعون لغسل دماغ، ومعهم هناك مجال للتفاوض فهم ربما يتردّدون في اللحظة الأخيرة ويتراجعون عن تنفيذ المهمّة. ثالثًا، التائهون والضائعون الذين يريدون تحقيق شيء ما في حياتهم وتحقيق العدالة لأنفسهم. خرّيجو سجون أو انطوائيون أو منعزلون مع أنفسهم، وغيرهم. هؤلاء لم تمنحهم الحياة شيئًا، فيريدون ـ عبر تنفيذ عملية انتحارية بعد غسل دماغهم ـ تحقيق شيء ما. رابعًا، هناك غير المعروفين، وهؤلاء يكونون عادة نتاج خليط النماذج الـ3 السابقة.
هذه خلاصة قراءات لي أجريتها أثناء عملي على مشروع "الرحلة". اتصال سارة بوالدتها مستلٌّ من وقائع عرفتها وتأكّدت منها. أثناء الاتصال، تظهر سارة منعدمة المشاعر، لكن في عمقها ما يدفعها إلى الاتصال بأمّها. تبدو كأن لا حياة لها. هذه أشياء جعلتني أفكّر بهم كبشرٍ. أختلف معهم وأحقد عليهم، لكنهم موجودون بيننا في كلّ مكان في العالم. أردتُ التعامل معهم بطريقة مختلفة تبتعد كلّيًا عن فكرة الانتقام منهم سينمائيًا. وهذا إلى درجة التفكير بمسألة أخرى أيضًا: ربما أخطأنا في طريقة تعاملنا معهم.
اقــرأ أيضاً
هذه تساؤلات مطروحة في "الرحلة": ما الذي يحدث عندما تعود الإرهابية إلى إنسانيتها؟ أفكّر بهذه الخطوة الذاتية التي تمرّ بها الشابّة. أفكّر بكيفية نظرتها إلى من حولها وإلى ما حولها. تابِعْ حركات سارة وملامحها وانفعالاتها في سياق الفيلم، لتكتشف تبدّلاتها، وهي تبدّلات عرفتها من لقاءاتي وأبحاثي وتفكيري وقراءاتي الخاصّة بهذا الموضوع. أنا لم أقدِّم في الفيلم خلفية لها، مع أني أحيانًا وضعت لها تلك الخلفية قبل أن ألغيها من التصوير. أردتُ ترك الحرية للمُشاهد كي يتمكّن لوحده من التعامل معها كما يريد.
(*) الممثلة زهراء غندور بارعة في تقديم هذه الشخصية بتبدّلاتها ومساراتها ومسالكها الانفعالية والفكرية وبعلاقاتها مع نفسها والآخرين.
ـ اشتغلتُ مع زهراء عامين كاملين قبل التصوير. الممثلون جميعهم غير محترفين باستثناء أمير جبارة الذي مثّل معي في "ابن بابل". زهراء جبّارة في طريقة تعاملها مع الشخصية. أخذتُ منها بعض ما في شخصيتها الحقيقية لتوظيفه في الشخصية السينمائية. هذا أسلوبي في العمل مع الممثل: جزءٌ من تجاربه في الحياة أستفيد منه وأضعه في بناء الشخصية السينمائية. هذا ساعدني كثيرًا. مع زهراء، هناك غضب وحزن ووجع وفرح وتوتر وغيرها من انفعالاتٍ وحالات. أخذتُ منها ما يتيح لي بناء شخصية سارة. كممثلة ومخرج، عملنا معًا على وضع خلفية كاملة لسارة: في أي يوم ذهبت زهراء للمرة الأولى إلى المدرسة، وأول أغنية استمَعَتْ إليها وأحبَّتها، وأول زيارة إلى الجامع، إلخ. تفاصيل من يومياتها العادية والبسيطة مفيدة جدًا في تكوين سارة. لكن، لاحقًا، أردتُ إبقاء الغموض حاضرًا وفاعلاً في علاقة المُشاهد بها، لتحريضه على دخول عالمها.
لم تستوعب زهراء شخصية سارة في البداية، فهي من الجنوب وسارة من الشمال. هناك اختلافٌ كبير بين سلوكين وأسلوبي تعبير وحركة. زهراء إعلامية منفتحة، شابّة حيوية تعيش في بغداد وبيروت. هي بهذا كلّه تختلف كلّيًا عن سارة. البداية صعبة. لكنها تمكّنَتْ من تقديم الشخصية بواقعية وصدق. بعد انتهاء التصوير، تعبَتْ نفسيًا. 6 أسابيع لم تغادر غرفتها أثناءها أبدًا، فهي تؤدّي دور شابّة تريد قتل نفسها والآخرين. هذا ليس سهلاً عليها أبدًا.
أثناء التصوير، أقمتُ لها طقوسًا خاصّة بها: نوع الأكل، مكان إقامتها، التمارين القاسية التي خضعت لها، كحمل أحجار ثقيلة والركض بها. علّقت دبابيس على جسدها، لأني أردتُها أن تشعر بالعنف كي تتمكّن من تقديمه أمام الكاميرا بصدق. أردتُها أن تشعر بالألم أيضًا. أجرينا، هي وأنا، تمارين على العين والوجه. كانت جبّارة وقدّمت دورًا جميلاً. انْظرْ إليها وهي تدخل المحطة بخطوات قاسية، فالغضب والتوتر والخوف حاضرة كلّها فيها وهي تمكّنت من ذلك بفضل هذه التمارين. الولد الذي يضربها على كتفها للسلام عليها، بائعة الورد، الشخصيات المتناثرة هنا وهناك داخل المحطة. أناس وأمور تجعلها تبدأ رحلة العودة إلى نفسها والتنبّه إلى الحياة خارج عالمها الضيّق.
اكتشافات كهذه جعلتها، ببلوغها لحظة الدراويش داخل المحطة، تتوقّف عن تنفيذ المهمة، وتبدأ طرح الأسئلة على ذاتها.
(*) فيلمك الجديد هذا يرتكز على رحلة داخل النفس، تمامًا كفيلم "ابن بابل" مثلاً وهو رحلة قاسية في الجغرافيا والذات أيضًا.
ـ أظنّ أن هذا عائدٌ إلى طفولتي. عام 1994، هاجرتُ من العراق. هذا أثّر عليّ كثيرًا، كأني دائمًا أبحث عن نفسي في الرحلات التي أقوم بها. لا مشاهد استقرار في أفلامي، وشخصياتي تلهث وتركض ولا تتوقّف، وإنْ لم تكن تتحرّك أحيانًا. هناك حركة دائمة.
مشروعان جديدان لي يرتكزان على هذا: الأول (طيور الجنّة) عن امرأة تقود باصًا في بغداد عام 2006، وتجمع أولادًا لتدريسهم داخل الباص ليس حبًّا بهم بل لأسباب أخرى يكشفها الفيلم لاحقًا، ويجعلنا نُدرك ما هي طيور الجنّة. هذا كلّه في شوارع منقسمة بحكم الصراعات الطائفية حينها. الثاني (صانع المطر) عن طفل يركض من دون توقّف.
دائمًا هناك رحلة. أعتقد أننا نحن جميعًا رُحَّل. نحن في رحلة طويلة في الحياة ولدينا أسئلة كثيرة نتمكّن من الإجابة على 10 بالمئة منها فقط. شخصياتي دائمًا في رحلة بحث عن أجوبة على أسئلة كثيرة. هذا كلّه موجود في أفلامي لأن أمورًا كهذه موجودة داخلي فأترجمها سينمائيًا بطرق مختلفة.
ـ هذا حاصلٌ عام 2008، أثناء تصويري "ابن بابل" في بغداد. حينها، رأيت صُورًا لشابّة يتراوح عمرها بين 18 و19 عامًا. كان رجال الشرطة يمزّقون ثيابها بعد ربط يديها بالسياج الحديدي لمبنى المركز الخاص بهم. كان أحدهم يعمل على تفكيك حزام ناسف لفّت نفسها به. الشابة خائفة. شعرتُ أن في عينيها شيئًا غريبًا لم أتمكّن من تحديده لحظتها. الصُوَر تعكس هذا كلّه. كنتُ أتأمّل عينيّ الشابّة الجميلة للغاية.
القصّة حقيقية. شابّة مُكلَّفة بتفجير نفسها لقتل أكبر عددٍ ممكن من الناس في مقرّ للشرطة العراقية. لكنها، قبيل لحظات من موعد التفجير، أخبرت شرطيًّا بأنها تحمل حزامًا ناسفًا، وبأنها ستُفجِّر نفسها. طلبت مساعدته، فهي كما يبدو متردّدة عن تنفيذ المهمّة في اللحظة الأخيرة. فاجأتني الحادثة. الشابّة جميلة، لكنها تريد قتل نفسها وقتل الآخرين.
بعد "ابن بابل"، بدأتُ البحث في موضوع الانتحاريات في العراق والعالم. نقلت القصّة إلى محطة للقطارات وقرّرت تصوير فيلم عن تلك الشابّة داخل مبنى المحطة وفي عوالمها ومع ناسها وأحوالهم. قرّرت عدم الرجوع إلى خلفية الشابّة، مُقدِّمًا إياها في المسافة الزمنية بين لحظة دخولها المحطة بنيّة تفجير نفسها وقتل الناس، ولحظة اقتناعها الذاتي الداخلي بالعودة عن قرار التفجير. المشروع برمّته مرّ بمراحل مختلفة بين عامي 2008 و2010، مع بداية كتابتي أول نسخة من النصّ السينمائي. بين نهاية 2015 ومطلع 2016، بدأت تصوير "الرحلة".
لكن أكثر المراحل إرباكًا وقلقًا لي حدثت معي عام 2012: أول نسخة مكتوبة تضمّنت حالتي إزاء هؤلاء الذين يفجّرون أنفسهم لحصد أرواحٍ بشرية. أردتُ الانتقام منهم سينمائيًا عبر شخصية سارة (زهراء غندور). ردّة فعلي إزاء كلّ عملية انتحارية مزيج غضب وحقد على منفّذيها. أردتُ محاكمة الانتحاريين في فيلمي. النص الأول خالٍ من التعاطي الإنساني ـ البشريّ معهم بشكل كامل. لكن، بعد كتابة وتفكير واشتغال على الموضوع، زرتُ سجنًا للنساء في بغداد تمّ اعتقال إرهابيات فيه. هناك، التقيتُ 3 منهنّ، إحداهنّ شابّة جميلة جدًا وذكية جدّا، تبلغ 19 عامًا. تكلّمَتْ معي من دون مواربة أو كذب أو احتيال، بل بوضوح وصراحة. لم تكن عيناها ترمشان. هذا ليس من طبيعة الانتحاريات اللواتي ينظرن إلى الأرض وهنّ يتحدّثن مع أحد، أو إلى جانبه. أما هي فمختلفة تمامًا عنهنّ. نظرَتْ إليّ مباشرة كواثق من نفسه وأفكاره للغاية.
(*) ما الذي حصل لاحقًا في الكتابة؟
ـ راجعتُ كتابتي الأولى. أعدتُ التفكير مليًا بالموضوع. فكّرتُ بالانتحاريات وبكيفية نظرتي إليهنّ. سألتُ نفسي: أليس معقولاً أن تكون إحداهنّ زوجتي أو حبيبتي أو صديقتي أو شقيقتي؟ أليست الانتحارية امرأة، أي كائنا بشريا ـ إنسانيا؟ لقائي هؤلاء الإرهابيات الـ3 مهمّ للغاية، إذْ جعلني أغيِّر نظرتي إلى المسألة وإلى كيفية معالجتي الموضوع في فيلمٍ سينمائي، انطلاقًا من عدائي الشديد لسلوكهن وتبريرات قراراتهن تلك.
(*) المُلاحَظ أنك تعاملت مع سارة كشابّة لها انفعالات.
ـ في البداية، ألغيتُ أنسنتها. هؤلاء، بالنسبة إليّ، لا يحبّبن الحياة. بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، أصبح الإرهاب فكرًا تجعله حكومات ومجتمعات سببًا لشنّ "الحرب على الإرهاب". لكن المشكلة أن تلك الحرب لم تقضِ على الإرهاب، بل زادته حضورًا وانتشارًا وجعلته ثقافة جديدة. عندما أردتُ التعامل مع موضوع كهذا في فيلم سينمائي، فتّشتُ عن أشرطة فيديو تتعلّق بمنفّذي عمليات انتحارية إرهابية. في غالبيتها الساحقة، يتّصل الإرهابيّ بوالدته قبل وقت قليل على موعد تنفيذ العملية. هؤلاء يريدون أحدًا قريبًا جدًا منهم للتحدّث معه قبل تفجير أنفسهم. إذًا، داخل كل واحد منهم إنسان ما. هذا ما أثارني أكثر من رغبتي في الانتقام منهم سينمائيًا.
هناك 4 نماذج من الانتحاريين: أولاً، المؤمنون الذين لديهم إيديولوجيا يتمسّكون بها. هؤلاء صعبٌ التعامل معهم، فكلّ شيء فيهم مُنغلق على نفسه. لا يُناقشون ولا يُبرّرون ولا يتيحون لأحد التواصل معهم. ثانيًا، الخاضعون لغسل دماغ، ومعهم هناك مجال للتفاوض فهم ربما يتردّدون في اللحظة الأخيرة ويتراجعون عن تنفيذ المهمّة. ثالثًا، التائهون والضائعون الذين يريدون تحقيق شيء ما في حياتهم وتحقيق العدالة لأنفسهم. خرّيجو سجون أو انطوائيون أو منعزلون مع أنفسهم، وغيرهم. هؤلاء لم تمنحهم الحياة شيئًا، فيريدون ـ عبر تنفيذ عملية انتحارية بعد غسل دماغهم ـ تحقيق شيء ما. رابعًا، هناك غير المعروفين، وهؤلاء يكونون عادة نتاج خليط النماذج الـ3 السابقة.
هذه خلاصة قراءات لي أجريتها أثناء عملي على مشروع "الرحلة". اتصال سارة بوالدتها مستلٌّ من وقائع عرفتها وتأكّدت منها. أثناء الاتصال، تظهر سارة منعدمة المشاعر، لكن في عمقها ما يدفعها إلى الاتصال بأمّها. تبدو كأن لا حياة لها. هذه أشياء جعلتني أفكّر بهم كبشرٍ. أختلف معهم وأحقد عليهم، لكنهم موجودون بيننا في كلّ مكان في العالم. أردتُ التعامل معهم بطريقة مختلفة تبتعد كلّيًا عن فكرة الانتقام منهم سينمائيًا. وهذا إلى درجة التفكير بمسألة أخرى أيضًا: ربما أخطأنا في طريقة تعاملنا معهم.
هذه تساؤلات مطروحة في "الرحلة": ما الذي يحدث عندما تعود الإرهابية إلى إنسانيتها؟ أفكّر بهذه الخطوة الذاتية التي تمرّ بها الشابّة. أفكّر بكيفية نظرتها إلى من حولها وإلى ما حولها. تابِعْ حركات سارة وملامحها وانفعالاتها في سياق الفيلم، لتكتشف تبدّلاتها، وهي تبدّلات عرفتها من لقاءاتي وأبحاثي وتفكيري وقراءاتي الخاصّة بهذا الموضوع. أنا لم أقدِّم في الفيلم خلفية لها، مع أني أحيانًا وضعت لها تلك الخلفية قبل أن ألغيها من التصوير. أردتُ ترك الحرية للمُشاهد كي يتمكّن لوحده من التعامل معها كما يريد.
(*) الممثلة زهراء غندور بارعة في تقديم هذه الشخصية بتبدّلاتها ومساراتها ومسالكها الانفعالية والفكرية وبعلاقاتها مع نفسها والآخرين.
ـ اشتغلتُ مع زهراء عامين كاملين قبل التصوير. الممثلون جميعهم غير محترفين باستثناء أمير جبارة الذي مثّل معي في "ابن بابل". زهراء جبّارة في طريقة تعاملها مع الشخصية. أخذتُ منها بعض ما في شخصيتها الحقيقية لتوظيفه في الشخصية السينمائية. هذا أسلوبي في العمل مع الممثل: جزءٌ من تجاربه في الحياة أستفيد منه وأضعه في بناء الشخصية السينمائية. هذا ساعدني كثيرًا. مع زهراء، هناك غضب وحزن ووجع وفرح وتوتر وغيرها من انفعالاتٍ وحالات. أخذتُ منها ما يتيح لي بناء شخصية سارة. كممثلة ومخرج، عملنا معًا على وضع خلفية كاملة لسارة: في أي يوم ذهبت زهراء للمرة الأولى إلى المدرسة، وأول أغنية استمَعَتْ إليها وأحبَّتها، وأول زيارة إلى الجامع، إلخ. تفاصيل من يومياتها العادية والبسيطة مفيدة جدًا في تكوين سارة. لكن، لاحقًا، أردتُ إبقاء الغموض حاضرًا وفاعلاً في علاقة المُشاهد بها، لتحريضه على دخول عالمها.
لم تستوعب زهراء شخصية سارة في البداية، فهي من الجنوب وسارة من الشمال. هناك اختلافٌ كبير بين سلوكين وأسلوبي تعبير وحركة. زهراء إعلامية منفتحة، شابّة حيوية تعيش في بغداد وبيروت. هي بهذا كلّه تختلف كلّيًا عن سارة. البداية صعبة. لكنها تمكّنَتْ من تقديم الشخصية بواقعية وصدق. بعد انتهاء التصوير، تعبَتْ نفسيًا. 6 أسابيع لم تغادر غرفتها أثناءها أبدًا، فهي تؤدّي دور شابّة تريد قتل نفسها والآخرين. هذا ليس سهلاً عليها أبدًا.
أثناء التصوير، أقمتُ لها طقوسًا خاصّة بها: نوع الأكل، مكان إقامتها، التمارين القاسية التي خضعت لها، كحمل أحجار ثقيلة والركض بها. علّقت دبابيس على جسدها، لأني أردتُها أن تشعر بالعنف كي تتمكّن من تقديمه أمام الكاميرا بصدق. أردتُها أن تشعر بالألم أيضًا. أجرينا، هي وأنا، تمارين على العين والوجه. كانت جبّارة وقدّمت دورًا جميلاً. انْظرْ إليها وهي تدخل المحطة بخطوات قاسية، فالغضب والتوتر والخوف حاضرة كلّها فيها وهي تمكّنت من ذلك بفضل هذه التمارين. الولد الذي يضربها على كتفها للسلام عليها، بائعة الورد، الشخصيات المتناثرة هنا وهناك داخل المحطة. أناس وأمور تجعلها تبدأ رحلة العودة إلى نفسها والتنبّه إلى الحياة خارج عالمها الضيّق.
اكتشافات كهذه جعلتها، ببلوغها لحظة الدراويش داخل المحطة، تتوقّف عن تنفيذ المهمة، وتبدأ طرح الأسئلة على ذاتها.
(*) فيلمك الجديد هذا يرتكز على رحلة داخل النفس، تمامًا كفيلم "ابن بابل" مثلاً وهو رحلة قاسية في الجغرافيا والذات أيضًا.
ـ أظنّ أن هذا عائدٌ إلى طفولتي. عام 1994، هاجرتُ من العراق. هذا أثّر عليّ كثيرًا، كأني دائمًا أبحث عن نفسي في الرحلات التي أقوم بها. لا مشاهد استقرار في أفلامي، وشخصياتي تلهث وتركض ولا تتوقّف، وإنْ لم تكن تتحرّك أحيانًا. هناك حركة دائمة.
مشروعان جديدان لي يرتكزان على هذا: الأول (طيور الجنّة) عن امرأة تقود باصًا في بغداد عام 2006، وتجمع أولادًا لتدريسهم داخل الباص ليس حبًّا بهم بل لأسباب أخرى يكشفها الفيلم لاحقًا، ويجعلنا نُدرك ما هي طيور الجنّة. هذا كلّه في شوارع منقسمة بحكم الصراعات الطائفية حينها. الثاني (صانع المطر) عن طفل يركض من دون توقّف.
دائمًا هناك رحلة. أعتقد أننا نحن جميعًا رُحَّل. نحن في رحلة طويلة في الحياة ولدينا أسئلة كثيرة نتمكّن من الإجابة على 10 بالمئة منها فقط. شخصياتي دائمًا في رحلة بحث عن أجوبة على أسئلة كثيرة. هذا كلّه موجود في أفلامي لأن أمورًا كهذه موجودة داخلي فأترجمها سينمائيًا بطرق مختلفة.