ويرى الدبلوماسي الأميركي، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن ترامب يقوم بمغامرة غير محسوبة، أو أنه يدير الملف الإيراني بطريقة عكسية. فهو هاجم النظام الإيراني في مناسبات عدة، كما هاجم إيضا سجل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما في التعامل مع إيران ووصف الاتفاق النووي بأنه أسوأ صفقة في التاريخ. "لقد حظر ترامب دخول المواطنين الإيرانيين للولايات المتحدة، وانسحب من الاتفاق النووي، وفرض المزيد من العقوبات على النظام ومؤسسات ومسؤولين إيرانيين، كما توعّد بفرض عقوبات على الشركات التي تتعامل مع إيران"، ثم بعد كل ذلك يتحدث عن استعداده للقاء الرئيس الإيراني للتفاوض حول صفقة جديدة، "هذا مثير للارتباك"، كما يقول الدبلوماسي.
توقيت مثير
زاد من ارتباك واشنطن توقيت العرض، إذ جاء عقب سلسلة حادة من الحرب الكلامية والتغريدات المتبادلة بين ترامب والمسؤولين الإيرانيين، ما بين تهديدات متبادلة، وتعهّدات بمواجهة الطرف الآخر. وقال ترامب في تغريدة على صفحته في موقع "تويتر" مهدداً فيها الرئيس الإيراني: "إياك أن تهدد الولايات المتحدة مرةً أخرى أو أنك ستعاني عواقب وخيمة لم يرها مثلك من قبل على مر التاريخ. نحن لم نعد البلد الذي سيقف على تهديدك بكلمات العنف والوفاة. كن حذراً!". ثم رد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، قائلاً في تغريدة "نحن موجودون منذ آلاف السنين، وشهدنا سقوط إمبراطوريات، من بينها إمبراطوريتنا، التي دامت أكثر من عمر بعض الدول".
عرض ترامب للقاء نظيره الإيراني حسن روحاني جاء كذلك قبل أيام من تفعيل موجة جديدة من العقوبات الأميركية، تبدأ يوم الاثنين في السادس من هذا الشهر، وتتضمن قيوداً على شراء الذهب والمعادن الثمينة الأخرى من إيران، بالإضافة إلى شراء الصلب والألومنيوم والاستثمار في السندات الإيرانية، وصفقات مع شركات صناعة السيارات الإيرانية، وسيتم أيضاً سحب تراخيص التصدير من شركات الطيران المدني، بما فيها "بوينغ" و"إيرباص". كذلك جاء عرض ترامب أثناء تواجد وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي، الذي أجرى محادثات في وزارتي الخارجية والدفاع. ومن المعروف أن سلطنة عمان قد استضافت في الماضي لقاءات سرية بين مسؤولين إيرانيين وأميركيين والتي أدت للتوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015.
ليس العرض الأول
وعلى الرغم مما سبق، يرى الباحث آرون ديفيد ميلر من مركز ويلسون في واشنطن، أنه لا ينبغي توقع الكثير مما صرح به ترامب بخصوص استعداده لعقد لقاء مع قادة إيران لعقد صفقة جديدة. ويقول ميلر في تصريحات صحافية: "ردود أفعالنا على كل ما يقوم به ترامب أصبحت متسرعة، لا ينبغي أن نأخذ كل ما يصدر عن الرئيس بجدية"، مضيفاً أن "الرئيس لا يستطيع تحديد استراتيجية واضحة لإدارته تجاه إيران". وهذه ليست المرة الأولى التي يعرّج فيها ترامب على طلب عقد لقاء مباشر مع قادة إيران للوصول لاتفاق جديد مع طهران يستبدل به الاتفاق الذي يراه ترامب "الأسوأ على الإطلاق تاريخياً"، بحسب ميلر.
وعلى الرغم من الاهتمام الإعلامي الواسع بما قاله ترامب، إلا أن هذا ليس العرض الأول الذي يتقدّم به لعقد صفقة مع الإيرانيين؛ فعقب خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، والذي وصف فيه القادة الإيرانيين بالقتلة، طلب ترامب من الفرنسيين ترتيب لقاء له مع الرئيس الإيراني، وهو ما لم يحدث. ثم جاء العرض الثاني في الثامن من مايو/أيار الماضي في خطاب ترامب معلناً الانسحاب من الاتفاق النووي، عندما قال إنه "مستعد وراغب وقادر" على التفاوض مع إيران. لذلك يجب ألّا يُرفع سقف التوقعات على خلفية تصريحات الرئيس الأميركي الأخيرة.
تناقض التوجّهات الأميركية
ثلاثة تحديات رئيسية حدّدتها استراتيجية الأمن القومي الأميركية التي كشف النقاب عنها ترامب في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وتلك الاستراتيجية تحدد بشكل كبير رؤية وتوجّهات الإدارة والمؤسسات تجاه أهم المخاطر العالمية التي يجب مواجهتها. إضافة إلى التحديين الروسي والصيني وتحدي الجماعات الإرهابية، أشار ترامب إلى دولتين مارقتين هما إيران وكوريا الشمالية كمصدر تهديد رئيسي لبلاده، وذكر أن "ديكتاتورية إيران الإقليمية تنشر الرعب وتهدد جيرانها في المنطقة، إضافة إلى سعيها لامتلاك قدرات نووية". وأشار ترامب إلى ضرورة "توحيد العالم ضد هذه النظم المارقة التي تسعى لزعزعة استقرار حلفاء الولايات المتحدة، وتهديد الأميركيين وحلفائهم". كذلك تعهّد ترامب في استراتيجية الأمن القومي بالعمل مع "حلفاء واشنطن لتحييد المساعي الإيرانية في الشرق الأوسط".
وعلى الرغم من ذلك، ينتقد آرون ميلر الرئيس الأميركي، إذ يراه لا يملك استراتيجية واضحة تجاه طهران. وعلى العكس من ذلك، يتخذ وزير الخارجية مايك بومبيو موقفاً أكثر وضوحاً، وأكثر تشدداً. فقد تحدث الوزير أمام فعالية للأميركيين من أصول إيرانية في 22 يوليو/تموز الماضي، وأعرب عن أمله في "أن يرى ذات يوم الإيرانيين في إيران يتمتعون بنوعية الحياة نفسها التي يتمتع بها الإيرانيون في أميركا". واستطرد قائلاً إن "الحكومة الأميركية ستطلق قناة تلفزيونية وإذاعة ناطقة باللغة الفارسية على مدار الأربع والعشرين ساعة، علاوة على أدوات رقمية ووسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الإيرانيين في إيران وفي أنحاء العالم".
وقبل ذلك خصص بومبيو خطاباً ألقاه يوم 21 مايو/أيار الماضي في واشنطن للتركيز على استراتيجية بلاده نحو طهران، قال فيها "سنضمن ألا يكون لدى إيران مسار يؤدي إلى امتلاكها السلاح النووي، ليس الآن، ولا في أي وقت على الإطلاق". وتتضمن الاستراتيجية العمل مع الحلفاء على مواجهة أنشطة النظام الإيراني "المزعزِعة للاستقرار في المنطقة"، ومنع "تمويله للإرهاب"، والتصدي لسعي إيران إلى نشر الصواريخ وغيرها من أنظمة الأسلحة المتقدمة التي تهدد السلام والاستقرار.
حلفاء ترامب الشرق أوسطيون
ويرى مارتن إنديك، المسؤول السابق في الخارجية الأميركية والذي يعمل حالياً في معهد بروكينغز في واشنطن، في تغريدات له عبر "تويتر"، أن "ترامب يحب الصفقات، ويحب الصفقات الكبرى، ويسعى للخروج من الشرق الأوسط، وبعد فشل صفقة القرن، ربما يمنحه الرئيس الإيراني صفقة كبرى بديلة، وهذا سيغضب حلفاء ترامب مثل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو"، مضيفاً "هذا سيُعدّ انتصاراً كبيراً لطهران حتى مع غياب أي صفقة بينها وبين واشنطن".
لكن حلفاء ترامب لم يعبّروا علناً عن مخاوفهم وربما صدمتهم من سلوك ترامب، ولم تخرج بيانات رسمية معقبة من عواصم تلك الدول على طرح ترامب. أما في واشنطن، فسيطر الصمت على أهم اللوبيات اليهودية المؤيدة دوماً لإسرائيل، والتي لم تترك مناسبة إلا وأصدرت بيانات سواء بالنقد أو الترحيب بخطوات ترامب. لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية المعروفة باسم "أيباك"، ومنظمة مناهضة التشويه، والمؤتمر العام لرؤساء المنظمات اليهودية الأميركية، وهي أكبر ثلاث منظمات داعمة لإسرائيل، لم تُعقب على رغبة ترامب لقاء قادة إيران، إذ إنها تخشى رد فعل الرئيس غريب الأطوار، كما يقول الدبلوماسي الأميركي لـ"العربي الجديد".
وبعدما ملأ سفيرا الرياض وأبوظبي خالد بن سلمان ويوسف العتيبة أروقة واشنطن بمدحٍ لا يتوقف لسياسات ترامب ضد إيران منذ وصوله للحكم، لم يخرج أي بيان أو تصريح من السفيرين للتعقيب على رغبة ترامب لقاء قادة إيران. هناك معضلة أميركية في تعاملها مع حلفاء ترامب الإقليميين مثل إسرائيل والسعودية والإمارات، "كيف سيتم إقناع إيران، أو الضغط عليها في صفقة ما لتحجيم نفوذها الإقليمي في اليمن، أو العراق أو سورية ولبنان".
ترامب وشخصنة السياسة
طبقاً للمتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأميركية، هيذر نويرت، فإن واشنطن لم تتلقَ أي اتصالات من الجانب الإيراني عقب دعوة ترامب للقاء نظيره الإيراني. وأشارت إلى أنه لا توجد أي خطط لعقد اجتماعات مع الإيرانيين حتى الآن. ولم يُظهر أي من خبراء العلاقات الإيرانية الأميركية ممن تحدثت معهم "العربي الجديد"، أي معرفة بأهداف ترامب من رغبته بلقاء قادة إيران. وشبّه البعض طرح ترامب تجاه إيران بما قام به ضد كوريا الشمالية، والذي انتهى بعقد لقاء تاريخي بين زعيمي الدولتين في سنغافورة. وكان أهم ما حصل ترامب عليه هو صدارته لكل الصحف وكبريات المحطات الإخبارية حول العالم لأيام. لكن إيران ليست كوريا الشمالية، فهي أولاً ليس لديها سلاح نووي، وثانياً كانت كوريا دولة يرغب جيرانها الإقليميين مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية في التوصل لاتفاق بينها وبين الولايات المتحدة، على عكس الحال مع إيران وجيرانها.
هنا يبرز تساؤل آخر: هل لهذه المبادرة من ترامب علاقة ببدء المحقق الخاص روبرت مولر مرحلة جديدة من التحقيقات في التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016، والتي بدأت فيها محاكمة رئيس حملته الانتخابية السابق بول مانافورت عقب توجيه اتهامات جنائية له هذا الأسبوع؟ وبالتالي هناك رغبة من ترامب في تغيير وجهة الأخبار والتركيز على هذا العرض بدلاً من التركيز على محاكمة مستشاره السابق؟
يقول الدبلوماسي الذي تحدث لـ"العربي الجديد"، تعقيباً على طريقة تقديم عرض ترامب: "لم تكن كلمات الرئيس بخصوص رغبته في لقاء قادة إيران كلمات مكتوبة قرأها الرئيس، بل جاءت رداً على سؤال وُجّه إليه أثناء المؤتمر الصحافي الذي جمعه برئيس الوزراء الإيطالي. من هنا فهذا العرض لا يعكس موقفاً متفقاً عليه داخل الإدارة، والرئيس معروف عنه الخروج بتصريحات غير محسوبة. نعم هو الرئيس والمسؤول الأول عن السياسة الخارجية، وقد تكون لديه رغبة في صفقة ما مع الإيرانيين، إلا أن الحديث عن لقاء يجمعه مع روحاني يُعدّ كلاماً سابقا لأوانه، غير أن الأمور تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات".