ففي حكمين هما الأولان من نوعهما، أصدرت محكمة إدارية تابعة لمجلس الدولة المصري، السبت الماضي، قراراً بفصل موظف إداري بوزارة الخارجية، وضابط شرطة بوزارة الداخلية، الأول بعد إدانته بحكم نهائي بالانضمام لجماعة "الإخوان المسلمين" ومعاقبته بالسجن ثلاث سنوات، والثاني لوجود "شبهة" بتعاطفه مع الجماعة وانتمائه إليها، بعدما وزّع مشروبات ومأكولات على جيرانه ابتهاجاً بمقتل النائب العام الراحل هشام بركات.
ويفتح الحكمان الباب أمام صدور أحكام نهائية بفصل وعزل أو الإحالة للتقاعد للمئات من الموظفين الحكوميين بحجة الانتماء للإخوان، الأمر الذي لم يعد مجرّد تهمة جنائية تنسبها النيابة العامة والمحاكم الجنائية للمتهمين الذين لا يرتكبون جرائم حقيقية، كالإرهاب والاتفاق والتخطيط والمساعدة، وذلك تطبيقاً لقوانين جديدة صدرت بعد عام 2013، فقد أصبح مجرد الانتماء جريمة في حد ذاته. بل إنّ الأمر تعدى مرحلة الاتهام الجنائي، فأصبح الانتماء للإخوان "جريمة مخلّة بالشرف"، بتعبير المحكمة التي أصدرت الحكمين يوم السبت، معتبرةً أنّ الانتماء للجماعة يعكس "ضعفاً في الخلق، وانحرافاً للطبع، وخضوعاً للشهوات، مما يزري الشخص ويوجب احتقاره وتجريده من كل معنى كريم، فلا يكون جديراً بالثقة، ولا يكون أهلاً لتولي المناصب العامة، التي تقتضي في من يشغلها التحلي بخصال الأمانة والنزاهة والشرف واستقامة الخلق".
وهذه المرة الأولى التي يصبح فيها الانتماء لجماعة سياسية معينة سبباً في الفصل من الوظيفة الحكومية. ففي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان معتقلو الإخوان والمحكوم عليهم حتى بالسجن المؤبد، يحتفظون بوظائفهم الحكومية. كما لم يصدر الرؤساء السابقون، جمال عبد الناصر أو أنور السادات أو حسني مبارك، أي قرار أو قانون بحرمان فئة معينة من الوظيفة الحكومية على أساس الانتماء السياسي أو حتى ارتكاب جريمة ذات طابع سياسي.
ولأن المشرّع المصري لم يحدّد أسباباً على سبيل الحصر لفقدان حسن السمعة والسيرة الحميدة، ولم يشرح في أي قانون معنى "الجريمة المخلة بالشرف"، بل تركها مرنة تحدّدها المحاكم على مختلف أنواعها ودرجاتها، فيبدو وكأن المحكمة ساوت بين الانتماء لجماعة سياسية وارتكاب أفعال فاحشة كانت سبباً في حرمان الموظفين العموميين من مناصبهم، وحرمان المواطنين من الترشّح للمناصب النيابية، كممارسة الدعارة والسرقة والاختلاس والاستيلاء على المال العام، والتحرش بالزملاء جنسياً في العمل، والتزوير.
ويأتي صدور الحكمين في ظلّ خطة متكاملة لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي للتنكيل بجماعة "الإخوان المسلمين" وامتداداتها في المجتمع المصري. فبعد منعهم من ممارسة السياسة والعمل العام، ومصادرة الأموال والممتلكات الخاصة بهم، يأتي اليوم طردهم من الخدمة المدنية والعمل الحكومي، خصوصاً في الجهات الحساسة، كالرئاسة والخارجية والداخلية والبرلمان والهيئات الرقابية، بما في ذلك فصل من ينتمي أقاربهم من الدرجتين الثالثة والرابعة إلى الجماعة، وتصنيفهم تحت مسميات كـ"محظور أمنياً".
لكنّ الحكم الصادر ضدّ ضابط الشرطة تحديداً يتضمّن معنىً آخر يزيد خطورة، وهو أنّ المحكمة أيّدت إحالة الضابط للاحتياط أو التقاعد "لمجرد الاشتباه" في انتمائه أو تعاطفه مع الإخوان. فالضابط في هذه الحالة لم يرتكب جريمة يعاقب عليها القانون، وهو ليس متهماً في قضية جنائية (عكس موظف الخارجية)، بل إنّ أفعالاً قد نسبت إليه تشي بتعاطفه مع الجماعة، علماً بأنه نفاها في التحقيقات.
وفي السياق، قالت مصادر قضائية في هيئة النيابة الإدارية، لـ"العربي الجديد"، إنّ "هذا الحكم يعدّ انتصاراً لاتجاه متنام داخل النيابة بدأ منذ عامين يتوسّع في قاعدة الاشتباه داخل الجهات الإدارية المختلفة. إذ صدرت تعليمات لإدارات الشؤون القانونية في مختلف المصالح الحكومية لإعداد قوائم بالموظفين المشتبه بانتمائهم لجماعة الإخوان، وقدّمت هذه القوائم لجهاز الأمن الوطني، وتمّ إجراء تحريات عليهم"، مضيفةً أنه "من ثبت انتماؤه للإخوان أو تورطه في أي مخالفة، كان يتم التحقيق معه ومجازاته أو وقفه عن العمل، وبعضهم طعن بالقرارات أمام مجلس الدولة ولكن لم تصدر الأحكام إلى الآن".
وتابعت المصادر شرحها للموقف قائلةً: "الحكم الجديد يسمح للنيابة الإدارية وكذلك للهيئات الشرطية والدبلوماسية والرقابية، بأن توسّع قرارات التخلّص من الموظفين من دون انتظار التحريات، ومن دون انتظار ارتكاب الموظف أي مخالفة، فالشبهة وحدها تكفي"، موضحةً أنّ "الشبهة تكون قائمة على شهادات من زملاء الموظف أو المحيطين به، وبالتالي فقد وفّر الحكم سنداً قانونياً لقرارات كانت النيابة تتخوّف من إجرائها خوفاً من البطلان".
وأوضحت المصادر أنّ هذا الحكم أضاف حالة واقعية لفصل الموظف هي "الاشتباه في انتمائه لتنظيم إرهابي أو معاد للدولة"، تضاف إلى الحالات العشر المنصوص عليها في قانون الخدمة المدنية الجديد الصادر عام 2016، والتي من بينها "صدور حكم على الموظف بعقوبة جنائية أو بعقوبة مقيّدة للحرية في جريمة مخلّة بالشرف أو الأمانة تفقده الثقة والاعتبار"، وهي الحالة التي طبقت على موظف الخارجية.
وبمجرّد صدور الحكم، أخرجت إدارات النيابة الإدارية المختلفة من الأدراج قوائم الاشتباه والتحقيق التي أعدتها الجهات الحكومية المختلفة، إذ بات مشرعناً الآن إجراء تحقيقات مع الموظفين لمجرد الاشتباه في انتمائهم للإخوان أو لأي تيار سياسي آخر سبق أن صدر حكم باعتباره إرهابياً، كحركة" 6 إبريل" أيضاً.
وذكرت المصادر أنّ هذه القوائم تتضمّن المئات من الموظفين. فمن وزارة الخارجية وحدها هناك 40 دبلوماسياً وموظفاً يشتبه بانتمائهم للإخوان، وفي وزارة التربية والتعليم سبق أن أرسل الوزير الأسبق محمود أبو النصر قائمة بأكثر من 300 معلم على مستوى الجمهورية إلى جانب نحو 120 معلماً حصرتهم النيابة العامة متهمين في قضايا جنائية ذات طابع سياسي أيضاً. وفي وزارة الكهرباء تحوم الشبهات حول 200 موظف، أمّا في وزارة الصحة، فيقترب الرقم من 400 موظف. كذلك، هناك العشرات من الموظفين الذين سبق الإبلاغ عنهم للأمن الوطني في وزارات النقل والتموين والزراعة والري.
وشدّدت المصادر على أنّ هذه القوائم يمكن إعادة النظر فيها الآن بناءً على هذا التطوّر القضائي، لتوسيع مساحة الاشتباه، ولا سيما أنّ النظام بادر بالفعل منذ أشهر عدة لفصل حوالي 200 موظف في مجلس النواب ووزارتي الخارجية والعدل، أو نقلهم إلى هيئات خدمية، بعدما أجريت تحريات أمنية واسعة على جميع الموظفين العاملين بجميع الجهات الحساسة بالدولة في الفترة من إبريل/ نيسان إلى يوليو/ تموز من العام الجاري. وقد نتج عن ذلك تحديد أسماء هؤلاء الموظفين الذين تم استبعادهم، وهو الأمر الذي كشفت عنه "العربي الجديد" في تقرير نشرته في سبتمبر/ أيلول الماضي.
ومن المتوقّع أن يطعن الموظف والضابط بالحكمين دفعاً ببطلان تكييف المحكمة للانتماء للإخوان كجريمة مخلّة بالشرف، وببطلان الاعتداد بالاشتباه كسند لإنهاء الخدمة. لكن المصادر ذاتها استبعدت قبول الطعنين وإلغاء الحكمين، مشيرةً إلى أنّ "مجلس الدولة شأنه شأن باقي الهيئات القضائية بات يسبح في فلك النظام، خصوصاً بعد تعيين رئيسه الحالي أحمد أبو العزم، باختيار السيسي، خرقاً لقاعدة الأقدمية التي كانت متبعة منذ تأسيس القضاء المصري وحتى إبريل 2017".
وتؤكّد هذه الإجراءات ما نشرته "العربي الجديد" في مارس/ آذار الماضي، عن بدء إجراءات تنفيذ برنامج سري وضعه الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، لتقليص أعداد العاملين في الجهاز الإداري للدولة. وكان هذا البرنامج قد بدأ العام الماضي لخفض أعداد الموظفين الحكوميين إلى نحو 4 ملايين بنهاية عام 2021، وذلك بإجراء تحريات أمنية غير اعتيادية على الموظفين الحاليين، فضلاً عن آلاف الموظفين المحبوسين احتياطياً والذين سافروا في إعارات أو انتدابات خارج مصر بعد أحداث صيف 2013، والإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين، للعمل بدول عربية أو خليجية، بهدف إجبارهم على تقديم استقالاتهم، وإخلاء عدد كبير من الدرجات المالية والوظيفية في مختلف الجهات الحكومية.
إلى جانب ذلك، يهدف اللجوء لهذه الإجراءات إلى أمر آخر، هو خفض أعداد الموظفين الذين ستتمكن الحكومة من فصلهم من الوظيفة العامة أو تخفيض رواتبهم، بدعوى تعاطيهم المخدرات والمسكرات، وهو الإجراء الذي كانت الحكومة قد بدأت بتنفيذه العام الماضي، ونظراً لوجود مشاكل قانونية تتعلق بإمكانية عودة هؤلاء الموظفين لأعمالهم بواسطة رفع دعاوى قضائية، مستغلّين ثغرة غياب النص التشريعي الذي يسمح للحكومة بوقف الموظف أو فصله في حالة تعاطيه المخدرات أو المسكرات طالما لم يؤثر هذا سلباً على أدائه الوظيفي.
وكان جهاز الأمن الوطني التابع لوزارة الداخلية قد حصل من النيابتين العامة والعسكرية على قوائم كاملة بجميع الموظفين الحكوميين المحبوسين احتياطياً والمدانين في قضايا عنف أو تظاهر أو انضمام لجماعة الإخوان المسلمين وأي جماعات أخرى، وتم توزيعها بصورة مفهرسة ومقسمة جغرافياً على فروع النيابة الإدارية بالمحافظات المختلفة، لتفتح الأخيرة (وهي الهيئة القضائية المنوطة دستورياً بالتحقيق مع الموظفين) تحقيقات صورية في مدى انتظام عمل هؤلاء الموظفين المحبوسين، ومدى حاجة أعمالهم إليهم.
وفي مرحلة لاحقة، أجريت تحريات أمنية تمتدّ لدرجة القرابة الرابعة لاستبعاد الموظفين الأقارب للمتهمين أو المحكومين في قضايا متعلقة بجماعة الإخوان، إذ أوضحت المصادر أنّ الأشهر المقبلة ستشهد إبعاد مئات الموظفين ذوي الأوضاع المشابهة في الدواوين المركزية للوزارات.
ووفقاً لاستراتيجية التنمية المستدامة (2030)، التي أعلنها السيسي العام الماضي، تعوّل الحكومة على اتباع آلية التقاعد المبكر المذكورة في قانون الخدمة المدنية الجديد، مع حظر التعيينات الجديدة نهائياً، إلّا في صورة عقود استشارية مؤقتة، أو في الجهات ذات الطابع الاستثنائي التابعة لرئاسة الجمهورية، للتخلص من 50 في المائة على الأقل من الرقم المراد تخفيضه، وهو مليوني موظف، حتى يصل عدد أفراد الجهاز الحكومي لحوالي 3 ملايين و900 ألف موظف فقط بعد عامين. مع العلم أنّ العدد الحالي للموظفين هو 5 ملايين و800 ألف موظف تقريباً، منهم 5 ملايين في الجهاز الإداري الأساسي، و800 ألف يتبعون لقطاع الأعمال العام المكوّن من الشركات القابضة والتابعة التي تديرها الحكومة وتساهم فيها مع مستثمرين آخرين.