محاكمات معارضي السيسي: الشهود "لا يتذكرون التفاصيل"

10 اغسطس 2016
طاولت المحاكمات معارضين سياسيين وصحافيين (العربي الجديد)
+ الخط -
أصبح الامتناع عن الإدلاء بالشهادة إحدى السمات الرئيسية المتكررة في جميع محاكمات القضايا الجنائية الكبرى المعروفة بـ"أحداث العنف والإرهاب"، بعد عزل الرئيس محمد مرسي منتصف عام 2013. وبات مشهد ادعاء شهود الإثبات من ضباط الشرطة بالأمن الوطني أو المباحث الجنائية أو المرور، وضباط الجيش والموظفين العموميين، أنهم نسوا تفاصيل الوقائع، ولا يتذكرون شيئاً عما أدلوا به من معلومات أمام النيابة العامة، أمراً معتاداً في مختلف القضايا التي يحاكم فيها قيادات وأعضاء جماعة الإخوان وغيرهم من أنصار مرسي ومعارضي النظام الحالي، بمن فيهم المتظاهرون الشبان الذين خرجوا ضد اتفاقية جزيرتَي تيران وصنافير بين مصر والسعودية.

أكثر من ذلك، فإن شهود الإثبات من الضباط تحديداً يتجاهلون في العديد من القضايا الحضور إلى المحكمة أساساً على الرغم من إلحاح الدفاع في طلبهم، وصدور قرارات من القضاة بتغريمهم بمبالغ بسيطة تتراوح بين 500 وألف جنيه لحثّهم على الحضور والمثول للشهادة.

غير أن ادعاءات الشهود نسيانهم للوقائع لا تُقابل بالحسم والحزم من القضاة على الرغم من تكرار المشهد وإهداره وقت المحكمة وفرص دفاع المتهمين في مناقشة الشهادات. فالقضاة المصريون في الدوائر التي حددتها وزارة العدل لنظر هذه النوعية من القضايا تحديداً يكتفون في الغالب بالاستناد في حيثياتهم إلى الشهادات التي أدلى بها الشهود أمام النيابة عقب الوقائع مباشرة، ولا يلتفتون أثناء كتابة الحيثيات إلى امتناع هؤلاء الشهود عن الشهادة العلنية في المحكمة.

هل الشهادات مفبركة؟
في هذا السياق، يؤكد مراقبون قانونيون من القضاة والمحامين، لـ"العربي الجديد"، أن امتناع شهود الإثبات تحديداً عن تكرار الإدلاء بشهاداتهم أمام المحكمة، أمر عادي قد يتجاوز عنه القاضي إذا كانت هناك فترة زمنية طويلة تفصل بين إدلاء الشاهد بشهادته الأصلية أمام النيابة ومطالبته بتكرار شهادته أو مناقشته فيها أمام المحكمة، أو إذا كانت الوقائع ذاتها عابرة أو سريعة. إلاّ أن الملاحظ في قضايا ما بعد 2013 في مصر، وفقاً لهؤلاء المراقبين، هو أن جميع شهود الإثبات يمتنعون عن تكرار الشهادة أو الرد على الأسئلة المتعلقة بها من المحامين أو القضاة، على الرغم من أن الفاصل الزمني بين سماع الشهادات في النيابة أو تقديم التحريات إليها من جهاز الأمن الوطني لا يتعدى الشهر أو الشهرين وصولاً إلى فترة المحاكمة. ويضاف إلى ذلك، أن معظم وقائع القضايا تتسم بطول الفترة وتعدد الأطراف من جناة ومتهمين وضحايا.


كما أدى تعدد القضايا بما يتجاوز المائة في القاهرة الكبرى وحدها إلى تعدد ضباط التحري وضباط المباحث المسؤولين عن إجراءات ضبط المتهمين أو القبض عليهم بعد البحث عنهم، ما ينسف فرضية عدم استطاعة شاهد الإثبات الواحد من ضباط الشرطة تذكر واقعة بعينها بسبب اختلاط تفاصيل الأحداث لمسؤوليته عن أكثر من واقعة.

ويؤدي إصرار شهود الإثبات على عدم الإدلاء بالتفاصيل إلى إهدار فرصة مهمة يراهن عليها وينتظرها كل محامٍ، وهي مناقشة الشهود لمحاولة تفنيد ما أدلوا به أمام النيابة، ومحاولة البحث عن ثغرات أمام المحكمة بما أدلى به شهود الإثبات من تفاصيل. بل إن هذه الفرصة تكون في أغلب الأحوال، خصوصاً، في حالات القضايا الجنائية متعددة الأطراف، هي الأمل الوحيد للدفاع عن المتهم، خصوصاً أن النيابة التي يدلي شهود الإثبات أمامها بأقوالهم لا تجري في معظم الأوقات أي مواجهات بين الشهود والمتهمين، وتترك هذه المهمة للمحكمة.

ويرى بعض المراقبين أن هذه الظاهرة تؤكد أمراً من اثنين؛ الأول أن الشهادات التي يتم الإدلاء بها أمام النيابة تحرر بالتنسيق بين الشهود من الضباط وبين وكلاء النيابة أو بين الشهود ورؤسائهم في العمل لجعلها أكثر منطقية وتماسكاً وإدانة للمتهمين. والأمر الثاني أن تكون هذه الشهادات مفبركة بالكامل للدرجة التي لا يستطيع فيها الشاهد تكرارها أو اختلاق تفاصيل جديدة عنها أمام المحكمة حتى لا يقع في حومة الشهادة الزور.

ووفقاً لهؤلاء المراقبين، فإنّ المسألة خطيرة في كلا الحالتين، إذ تثير الكثير من الشكوك حول علاقة السلطة التنفيذية ممثلة بضباط الشرطة أو الجيش مع السلطة القضائية ممثلة بأعضاء النيابة العامة، لا سيما أن الشهادات التي تكتب في تحقيقات معظم القضايا بعد 2013 تتسم بالتفصيل الشديد والزج بأسماء قيادات "الإخوان"، أو أي متهم آخر في وقائع معينة، يرى أعضاء هيئات الدفاع أنه من المستحيل وجود شهود عليها غير أطرافها الأصلية.

ومن بين ذلك، الشهادات والتحريات التي أدلى بها ضباط الأمن الوطني والمخابرات العامة في قضايا مثل "التخابر" و"الهروب من سجن وادي النطرون" المتهم فيهما الرئيس محمد مرسي، وقضية "خلية ماريوت" التي كان متهماً فيها عدد من الصحافيين، وأُعفي عنهم بقرار رئاسي بعد إدانتهم للمرة الثانية، وكذلك قضيتا أحداث محيط قصر الاتحادية ومحيط مقر مكتب الإرشاد بالمقطم.

وحفلت الشهادات الخاصة بمن أجروا التحريات في تلك القضايا بتفاصيل تبدو دقيقة عن لقاءات ومراسلات بين قيادات جماعة الإخوان لتنفيذ جرائم معينة، إلى درجة توحي بأن شهود الإثبات كانوا أقرب للمتهمين من أنفسهم، لكن الشهود لم يغيروا سلوكهم أمام المحكمة، وأصروا على عدم تذكر التفاصيل على الرغم من أنها دقيقة ومتعلقة بشخصيات بارزة ووقائع من المفترض أنها مؤثرة في تاريخ مصر.

تضييق على الدفاع
إلى جانب سيناريو "الفبركة" المسبقة للشهادات بما لا يسمح بتكرار الإدلاء بها، يطرح أحد المحامين البارزين في هيئة الدفاع عن معتقلي "الإخوان" سيناريو آخر، هو أن يكون هؤلاء الشهود يتعمدون، بالتواطؤ مع المحاكم، إهدار أحد حقوق الدفاع والتضييق عليه، بعدم إعطائه فرصة توجيه الأسئلة.




ويؤكد هذا المحامي لـ"العربي الجديد" أن "توجيه الأسئلة للشهود هو أمر إيجابي للدفاع أكثر من قراءة وفحص القضية والشهادات المكتوبة أمام النيابة، لأن التعامل مع الأوراق يختلف عن التعامل مع شخص يمكن أن تستشف منه أشياء حاول إخفاءها أمام النيابة، كما أن إجراء هذه المناظرة المصغرة بين الدفاع والشاهد أمام القاضي يكون لها أثر إيجابي على سير الدعوى، خصوصاً إذا أخطأ الشاهد أو ناقض أقواله السابقة".

ويضيف المحامي ذاته أنّ "كل هذا لم يحدث في 95 في المائة من القضايا التي حضرناها على مدار 3 سنوات. والخطير، أن معظم رؤساء دوائر الإرهاب يستغلون هذه الظاهرة للتعجيل بحجز الدعوى للحكم بعد الاكتفاء بسماع مرافعاتنا المبنية على الشهادات المكتوبة فقط، ثم تخرج الأحكام بإدانة المتهمين استناداً لقرار الإحالة الصادر من النيابة العامة وأدلة الثبوت التي على رأسها الشهادات المكتوبة التي لم يسمعها القاضي بنفسه ولم يختبر صدقها".

ويربط المحامي بين هذه الظاهرة وبين التعديلات التي أرادت حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إدخالها مرتين على قانون الإجراءات الجنائية ورفضها كل من مجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة، وهي التي كانت تمنح القاضي حق رفض استدعاء الشهود بناء على رغبة الدفاع، بحجة الإسراع في إجراءات التقاضي وعدم التلكؤ في إصدار الأحكام في هذه القضايا.

ويشير إلى أنه "على الرغم من أن ذلك المشروع لم يدخل حيّز التنفيذ، نطبقه من الناحية العملية، لأن شهود الإثبات كلهم لا يأتون للمحكمة، وإذا أتوا لا يتحدثون، وإذا تحدثوا يدعون النسيان". ويلفت إلى أنّ "أملنا الوحيد في محكمة النقض التي ألغت حتى الآن معظم أحكام الإدانة، لكن المشكلة المتعلقة بمسألة نسيان الشهادات تحديداً أن محكمة النقض لا تعتبر هذا الأمر سبباً لإلغاء الحكم، طالما كانت محكمة أول درجة مستندة إلى أسباب أخرى من واقع أدلة الثبوت".

الكلمة الأخيرة للمحكمة
لمحكمة النقض المصرية مبادئ قديمة لم تخرج عنها على الرغم من المستجدات السياسية تفيد بأن الكلمة الأخيرة في تقدير جدية الأدلة للمحكمة وحدها، من دون أن ينال من ذلك الدفع بكذب الشهود أو ادعائهم نسيان ما ذكروه أمام النيابة أو في التحريات التي كتبوها عن القضية.
إلاّ أن المحكمة لها أيضاً مبدأ كفيل بإحداث توازن في مثل هذه القضايا، وهو عدم الاعتداد بالتحريات الأمنية وأقوال رجال الشرطة والضبط القضائي باعتبارها دليلاً مطلقاً للإدانة، بل بوجوب التعامل مع هذه التحريات كقرينة لا تعبر إلّا عن رأي ورؤية كاتبها، وليس كحقيقة ثابتة غير قابلة لرقابة المحكمة.

ونتيجة إعمال المبدأ الثاني، ألغت محكمة النقض حتى الآن الأحكام التي عرضت عليها والصادرة من ثلاثة من رؤساء دوائر الإرهاب المشهورين وهم القضاة؛ محمد ناجي شحاتة، وحسن فريد، ومعتز خفاجي، وجميعهم كانوا يعتمدون في كتابة حيثياتهم على ترديد تحريات ضباط الشرطة (شهود الإثبات) من دون مناقشتهم لها أو إعطاء فرصة للدفاع لسؤالهم عنها، كما كان الضباط في هذه القضايا يدعون أيضاً عدم تذكرهم تفاصيل الوقائع.

ويرى مراقبون أنه بناء على هذه المبادئ، فإن امتناع الشهود عن الإدلاء بشهاداتهم يعتبر قرينة أمام محكمة النقض لعدم جدية تحرياتهم أو تفاصيل ضبطهم للمتهمين أو أقوالهم السابق ذكرها أمام النيابة، مما يثير الشكوك حولها، وقد يدفع المحكمة لتنحيتها جانباً، ويضطرها للبحث في الأدلة الأخرى. لكن هذه الظاهرة على الرغم من انتشارها لا يمكن الرهان عليها كسبب وحيد لبراءة المتهمين أو إلغاء أحكام إدانتهم في مرحلة النقض.