غير أنّ هذه الخسارة لم تكن مجرد هزيمة انتخابية، في لعبة ديمقراطية، ترقى ممارستها في فرنسا إلى عهد الثورة في القرن الثامن عشر. صحيح أنّها كانت متوقعة ولكّنها تحمل في طياتها بعض الدروس السّياسية، تنبّه لها رئيس الحكومة، مانويل فالس، قبل حصولها، محذّراً من خطر "موت اليسار".
وتُعبّر خسارة الأحد، التي تأتي ضمن سلسلة "هزائم"، عن خيبة أمل الناخبين من سياسة "العهد الاشتراكي"، بعد أقل من 30 شهراً على وصول هولاند إلى السلطة.
وعلى الرغم من أن خسارة "اليسار" في مجلس الشيوخ، قد لا تؤثر على العمل التشريعي، وقد لا يكون اليمين في هذا المجلس أكثر خصومة لحكومة فالس الاشتراكية من "الشيوخ الاشتراكيين" الذين وقفوا في وجه عدد من مشاريع الإصلاح، التي أدرجها هولاند على برنامج عهده، أو ضمن وعوده الانتخابية، وآخرها إصلاح المناطق وإعادة توزيع أراضي الأقاليم. غير أنّ الخسارة معنوية أولاً، وتؤشر إلى المزاج الشعبي العام. هذا المزاج أرسل سابقاً إشارتين مهمتين إلى الحكم. أولهما في الانتخابات البلدية وثانيهما في انتخابات البرلمان الأوروبي.
من جهته، ظنّ الرئيس الفرنسي عن دون قصد ربما، أنّه كسر هذا التقليد، قبل أن تُفتح ثغرة أمام اليمين المتطرّف للسيطرة على بعض البلديات، ولاحتلال المرتبة الأولى بين الأحزاب الفرنسية في البرلمان الأوروبي، ليتوِّج حزب "الجبهة الوطنية"، بزعامة مارين لوبن، هذا الاختراق، ويدخل إلى مجلس الشيوخ للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، التي أرساها الجنرال شارل ديغول في نهاية خمسينيات القرن الماضي. وكلّه بفضل حصيلة سياسة هولاند غير الشعبية، وانقسامات اليمين.
من ناحية أخرى، لا تشكل هذه الحصيلة هزيمة للاشتراكيين، إذ إن مفاعيلها تبقى محصورة في التناوب التقليدي على السلطة أو مراكز القرار والنفوذ.
وكان باستطاعة حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، أكبر أحزاب اليمين، أن يحتفل بالنصر ويحلم العودة مجدداً إلى السلطة في انتخابات الرئاسة في العام 2017، لو كان وضعه أفضل، غير أن الانقسامات داخل اليمين وفشل اليسار أتاح الفرصة أمام فوز حزب لوبن، أولاً في البلديات، والآن في مجلس الشيوخ.
وعلى الرغم من أن اليمين التقليدي كسب انتخابياً، لكّنه لا يستطيع القول بعد أنه كسب رهان استعادة السلطة. لأنه في حال كان رهانه على الأمل، الذي قد يعتقد أنّه يمثله في أوساط الفرنسيين؛ فالواقع الذي لا يمكن تجاهله هو أن نجاحاته هي حصيلة فشل هولاند، وليست بفضل قوة إقناع بمشروع سياسي للحكم يجمع عليه الرأي العام، إذ تنحو البلاد نحو اليمين بسبب عدم كفاءة اليسار.
ولا بدّ أنّ قادة أحزاب اليمين وتحديداً "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، يعرفون تماماً أن انتصاراتهم الانتخابية لا تعطي مؤشراً إلى حركة جامعة مؤيدة لمشروعهم السياسي، ولا بد أنّهم فهموا أنّها تعبير احتجاجي على سياسة الحكم الراهن.
إذ لا تزال صورة هذا اليمين "مشوّهة"، وخلافاته الداخلية تشتت قوته بين تيارات وشخصيات تتنازع منذ مدة على زعامة الحزب، التي ستحسم في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بين ثلاثة متنافسين، هم نيكولا ساركوزي، وفرنسوا فيون، وآلان جوبيه، غير أن أيّاً منهم لا يشكل خياراً جديداً أو تغييريّاً بالنسبة للناخبين.
والخلاصة أنه لا يمكن بناء شيء صلب ودائم على أسس فوز انتخابي ناجم عن ضعف الخصم.
أمّا حزب لوبن فهو يحتفل بالنصر، ويدرك أنّ مفاعيله تتخطى حصوله على مقعدين في مجلس الشيوخ الجديد. فقد جنى خلال السنتين الماضيتين مكسباً أساسياً، تمثل بإسقاط الحِرم الذي كان مفروضاً عليه منذ نشأته، ليصبح الحزب التقليدي "الثالث" في اللعبة الانتخابية، التي كانت محصورة بين قطبين. كذلك لم يعد "محرّماً أدبياً" على الناخب الفرنسي التعبير عن تأييده لساسة حزب "الجبهة الوطنية"، على الرغم من اجتهاد خصومه سابقاً في نعته بكل الأوصاف "الشيطانية"، محاولين جعله "منبوذاً" في أوساط الرأي العام وفي الدوائر السياسية.
بالمحصلة، يمكن القول إن المسيرة الانحدارية "لليسار الاشتراكي"، أدّت إلى خسارته في جميع الانتخابات على مدى سنتين؛ وجعل صورة الوردة الحمراء، رمز الحزب، التي كانت تغطي الخارطة السياسية، بعيدةً عنه.
وما أحوج قادة هذا الحزب اليوم إلى استعادة عبارة أطلقها زعيمهم الراحل فرنسوا ميتران، عند فوزه بالرئاسة، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي: "ننتقل الآن من الظل إلى الضوء". وفي الضوء تبدو الصورة أوضح عند الناخب الذي يشاهد ويحاسب، إذ ملّ الفرنسيون خلال السنتين الماضيتين من انتظار رياح التغيير التي قد يطول هبوبها.
كما تحتاج فرنسا إلى أكثر من نصر انتخابي لتخرج من أزماتها المتعددة، بدءاً بالعجز المتزايد في الموازنة، وصولاً إلى التراجع في القوة الشرائية، والتباطؤ في تنفيذ الإصلاحات الموعودة، مروراً بانقسامات بين أبناء العائلة السياسية الواحدة.