21 سبتمبر 2024
مثقف وسلطة و"غوغاء"
في العصور المختلفة، شرقاً وغرباً، نَظَرَت النُخب إلى العوام بوصفهم موضوعات وأدوات للسلطة والثروة، فتبنت خطاباً إقصائياً، وصفهم بأقسى النعوت والألفاظ. فهؤلاء: غوغاء، دهماء، همج، رعاع، سفلة، وحثالة...وغيرها. وكان هؤلاء مجرد وقودٍ للثورات والحروب، ولم يكن يليق بكتب التاريخ أن تحتفي بهم.
وفق الصورة النمطية التي كرّسها هذا الخطاب، فإن "الغَوغَاء" (في الأصل: صغار الجراد) مخلوقاتٌ لا يحرّكها العقل، بل غرائز، في جماعها مَضرّة، وفي افتراقها مَسرّة. فحين ذُكر "الغوغاء" عند عبد الله بن عباس، قال: "ما اجتمعوا قط إلا ضرّوا، ولا افترقوا إلا نفعوا". وحين سئل عن نفعهم، قال: "يذهب الحجّام إلى دكانه، والحدّاد إلى أكياره، وكل صانع إلى صنعته" (العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ج2).
وجود هؤلاء وجود ضرورة، لا وجود كينونة مستقلة، هم نماذج "إنسان القطيع"، وفق المصطلح النيتشوي (نيتشه)، الذي يبنى سلوكه ومعتقده على الفطرة والحس الجمعي المتوارث. ولأنهم بلا عقل، كما يصفهم تشارلز ديكنز (قصة مدينتين)، فهم متعطشون لحماسةٍ تداعب غرائزهم، يصّطفون حول المقصلة، يصفقون لكل رأس يُبتر، وكل دم يسفك.
يقدّم أبو سليمان البستي في كتابه "العزلة" مقاربة لـ "الغوغاء"، فينقل عن أبي عاصم النبيل أن رجلا أتاه، فقال له: "امرأتي قالت لي يا غوغاء، فقلت لها: إن كنت غوغاء فأنت طالق ثلاثاً، فما العمل؟". فسأله أبو عاصم: "هل أنت ممن يحضر المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك؟ قال: لا". قال النبيل: "هل أنت ممن يحضرون يوم يَعرِض الحاكم الظالم أهل السجون، فيقولون فلان أجلد من فلان؟ قال لا". قال أبو عاصم: "هل أنت الرجل الذي إذا خرج الحاكم الظالم يوم الجمعة، جلست له على ظهر الطريق حتى يمر، ثم تقيم مكانك حتى يصلي وينصرف؟ قال: لا". فقال أبو عاصم: "لست من الغوغاء، إنما الغوغاء من يفعل هذا".
هذه الصورة النمطية تدين العامة "الغوغاء"، ولا تحفل بتفسير أحوالهم. فهؤلاء المُعدمون ضحايا استغلال النُخب ليسوا على تلك الدرجة من السفه والسذاجة، فإلى جوار غرائزهم العدوانية، تتملكهم أيضاً غريزة حفظ البقاء التي تدفعهم إلى التماهي ودور الضحية، ويصبح الـ "لاعقل" وسيلة إفلاتٍ من العقاب. وبدورهم، رسموا صورةً نمطيةً لتلك النخبة بكل حسّ سخرية ممكن. وخلف ريائهم، يخفون قيماً تتمرّد على عالم النخبة، لكنهم يعلمون أن سبيل الحصول على بعض المكاسب والامتيازات هو إما التقرب منها أو الخروج على قوانينها. وسواء تم هذا الخروج أم لا، ومع شعور بالحرمان والاستباحة، يتكرّس لديهم شعورٌ بالذنب، يتوارى خلف هتافهم للعدالة، وتصفيقهم للسلطان، ولذة علمهم أن دورهم لم يحن، هذه المرة، على منصّات الجلد والإعدام. لكنهم متحفزون للحراك، لا سيما إذا مُسّت مقدساتهم.
أدرك الجاحظ مكر العوام، فقال: "وما في الأرض عملٌ أكدّ لأهله من سياسة العوام" (الحيوان)، والحذر واجب: "قاربوا هذه السفلة وباعدوها (...)، واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه، وأن المتهوّر من كانت عليه" (رسائل الجاحظ). دائماً، كانت الثقافة الشعبية حدوداً للتقاطع والتماس بين المصالح المتعارضة، أو بتعبير غرامشي، مجال المواجهة بين الطبقات المهيمنة والمهيمن عليها.
صحيح أن المثقف لا ينتمي إلى طبقةٍ، بل إلى هيئة اجتماعية، إلا أن له دوراً عليه القيام به، فوجد نفسه متورطاً في صراعٍ كان فيه الحلقة الأضعف. بِضعُ سطور، أو كلمات مقتطعة من سياقها وبتوظيف من السلطة السياسية، كانت كافيةً للتحريض عليه. وبدعوى المساس بالمقدّس، نُصبت ساحات الإعدام، والجلد، والنفي، ومحارق الأجساد والكتب. والأمثلة كثيرة قديمها وحديثها.
مع الثمن الباهظ للمواجهة المباشرة مع "الغوغاء"، لجأ مثقفون إلى التَقيّة، فأنتجوا نصاً مركّبا عسيراً على الهضم خارج دائرة النخبة. أقرّ آخرون بالسلطان واقعاً وضرورةً، وأن لا مجال لمزاولة دورهم، إلا تحت مظلة خدمة السلطان والنصح له. لكن صحبة السلطان واحدة من ثلاث "لا يجترئ عليهن إلا أهوج، ولا يسلم منهن إلا قليل" (كليلة ودمنة). ازدواجية السلطان (إن حان وقت الموعظة بكى، وإن حان وقت السياسة طغى)، في معرض سياسته لهؤلاء الـ"غوغاء"، أفضت إلى ازدواجيةٍ أصابت المثقف بخيبةٍ مضاعفة. وها هو التوحيدي، كما ينقل ياقوت الحموي (إرشاد الأريب)، يوصي بأن تحرق كتبه بعد موته، مبرراً ذلك بقوله: "إني فقدت ولداً نجيباً وصديقاً حميماً وصاحباً قريباً وتابعاً أديباً ورئيساً منيباً، فشقّ علي أن أدعها لقوم (...) يشتمون بسهوي وغلطي، إذا تصفحوها".
مع دولة الحداثة الأوروبية، لم تعد معركة المثقف مع السلطة تدور داخل المجتمع السياسي، ولا بالتصادم مع أجهزتها القمعية، بل داخل المجتمع المدني، ضد جهازها الثقافي الأيديولوجي، وبسندٍ من الرأي العام. وتقلصت الهوة بين الثقافتين، الشعبية والنُخَبية، إلى الحد الأدنى بتوسط الثقافة الجماهيرية.
اختُزلت "الثقافة الجماهيرية" في الأيديولوجيات العربية التي كانت الطبقات الوسطى حواملها الاجتماعية الرئيسية. وفي هيمنة السياسي على الثقافي، وجد المثقف العربي نفسه إما على يمين السلطة، أو على يسارها، ليمارس، في كلا الحالين، دوراً تحريضياً شعبوياً لا دوراً تنويرياً، فعجز عن زعزعة منظومة القيم التقليدية. ومع تصدع تلك الأيديولوجيات وشعاراتها، وإفقار الطبقات الوسطى وانهيارها، تعود الهوة واسعةً بين الثقافتين الشعبية والنخبية، وتسود قيمُ الثقافة الشعبية الوعيَ الاجتماعي.
لم يستطع المثقف تعديل سلوك السلطة، ولا البقاء في فضائها الذي اشترط توظيفاً مدروساً ومؤقتاً لجهوده. كما عجز عن الاندماج في محيطٍ من البسطاء، كان منبت مثقفين كثيرين، ليكتفي بمجتمعه الفرعي (شللية ثقافية)، أو يختار العزلة خلف أسواره المعرفية، ممارساً عنفاً رمزياً تجاه المجتمع، عبر طقوس التعالي المختلفة، بدءاً بتجريم إضافة السكر إلى القهوة، واللغة الفنية التي تحتار أمامها عقول البسطاء.
تحرّكت الجماهير من دون سند ثقافي، وكان من السهل في مواجهة غرائز الاستبداد وعنفه، الارتداد إلى القيم التقليدية، وإعادة إنتاج الهويات الفرعية، المستندة إلى غرائز القبيلة والعرق والطائفة. لم يستطع المثقف قيادة الحراك، وحلت مكانه قيادات تقليدية مارست استبداداً وعنفاً مضادّاً. أصرّ المثقف على سلطان الاستقواء بالآخر، ليكتشف، متأخراً، أن الآخر تحركه المصالح، لا القيم.
وفق الصورة النمطية التي كرّسها هذا الخطاب، فإن "الغَوغَاء" (في الأصل: صغار الجراد) مخلوقاتٌ لا يحرّكها العقل، بل غرائز، في جماعها مَضرّة، وفي افتراقها مَسرّة. فحين ذُكر "الغوغاء" عند عبد الله بن عباس، قال: "ما اجتمعوا قط إلا ضرّوا، ولا افترقوا إلا نفعوا". وحين سئل عن نفعهم، قال: "يذهب الحجّام إلى دكانه، والحدّاد إلى أكياره، وكل صانع إلى صنعته" (العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ج2).
وجود هؤلاء وجود ضرورة، لا وجود كينونة مستقلة، هم نماذج "إنسان القطيع"، وفق المصطلح النيتشوي (نيتشه)، الذي يبنى سلوكه ومعتقده على الفطرة والحس الجمعي المتوارث. ولأنهم بلا عقل، كما يصفهم تشارلز ديكنز (قصة مدينتين)، فهم متعطشون لحماسةٍ تداعب غرائزهم، يصّطفون حول المقصلة، يصفقون لكل رأس يُبتر، وكل دم يسفك.
يقدّم أبو سليمان البستي في كتابه "العزلة" مقاربة لـ "الغوغاء"، فينقل عن أبي عاصم النبيل أن رجلا أتاه، فقال له: "امرأتي قالت لي يا غوغاء، فقلت لها: إن كنت غوغاء فأنت طالق ثلاثاً، فما العمل؟". فسأله أبو عاصم: "هل أنت ممن يحضر المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك؟ قال: لا". قال النبيل: "هل أنت ممن يحضرون يوم يَعرِض الحاكم الظالم أهل السجون، فيقولون فلان أجلد من فلان؟ قال لا". قال أبو عاصم: "هل أنت الرجل الذي إذا خرج الحاكم الظالم يوم الجمعة، جلست له على ظهر الطريق حتى يمر، ثم تقيم مكانك حتى يصلي وينصرف؟ قال: لا". فقال أبو عاصم: "لست من الغوغاء، إنما الغوغاء من يفعل هذا".
هذه الصورة النمطية تدين العامة "الغوغاء"، ولا تحفل بتفسير أحوالهم. فهؤلاء المُعدمون ضحايا استغلال النُخب ليسوا على تلك الدرجة من السفه والسذاجة، فإلى جوار غرائزهم العدوانية، تتملكهم أيضاً غريزة حفظ البقاء التي تدفعهم إلى التماهي ودور الضحية، ويصبح الـ "لاعقل" وسيلة إفلاتٍ من العقاب. وبدورهم، رسموا صورةً نمطيةً لتلك النخبة بكل حسّ سخرية ممكن. وخلف ريائهم، يخفون قيماً تتمرّد على عالم النخبة، لكنهم يعلمون أن سبيل الحصول على بعض المكاسب والامتيازات هو إما التقرب منها أو الخروج على قوانينها. وسواء تم هذا الخروج أم لا، ومع شعور بالحرمان والاستباحة، يتكرّس لديهم شعورٌ بالذنب، يتوارى خلف هتافهم للعدالة، وتصفيقهم للسلطان، ولذة علمهم أن دورهم لم يحن، هذه المرة، على منصّات الجلد والإعدام. لكنهم متحفزون للحراك، لا سيما إذا مُسّت مقدساتهم.
أدرك الجاحظ مكر العوام، فقال: "وما في الأرض عملٌ أكدّ لأهله من سياسة العوام" (الحيوان)، والحذر واجب: "قاربوا هذه السفلة وباعدوها (...)، واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه، وأن المتهوّر من كانت عليه" (رسائل الجاحظ). دائماً، كانت الثقافة الشعبية حدوداً للتقاطع والتماس بين المصالح المتعارضة، أو بتعبير غرامشي، مجال المواجهة بين الطبقات المهيمنة والمهيمن عليها.
صحيح أن المثقف لا ينتمي إلى طبقةٍ، بل إلى هيئة اجتماعية، إلا أن له دوراً عليه القيام به، فوجد نفسه متورطاً في صراعٍ كان فيه الحلقة الأضعف. بِضعُ سطور، أو كلمات مقتطعة من سياقها وبتوظيف من السلطة السياسية، كانت كافيةً للتحريض عليه. وبدعوى المساس بالمقدّس، نُصبت ساحات الإعدام، والجلد، والنفي، ومحارق الأجساد والكتب. والأمثلة كثيرة قديمها وحديثها.
مع الثمن الباهظ للمواجهة المباشرة مع "الغوغاء"، لجأ مثقفون إلى التَقيّة، فأنتجوا نصاً مركّبا عسيراً على الهضم خارج دائرة النخبة. أقرّ آخرون بالسلطان واقعاً وضرورةً، وأن لا مجال لمزاولة دورهم، إلا تحت مظلة خدمة السلطان والنصح له. لكن صحبة السلطان واحدة من ثلاث "لا يجترئ عليهن إلا أهوج، ولا يسلم منهن إلا قليل" (كليلة ودمنة). ازدواجية السلطان (إن حان وقت الموعظة بكى، وإن حان وقت السياسة طغى)، في معرض سياسته لهؤلاء الـ"غوغاء"، أفضت إلى ازدواجيةٍ أصابت المثقف بخيبةٍ مضاعفة. وها هو التوحيدي، كما ينقل ياقوت الحموي (إرشاد الأريب)، يوصي بأن تحرق كتبه بعد موته، مبرراً ذلك بقوله: "إني فقدت ولداً نجيباً وصديقاً حميماً وصاحباً قريباً وتابعاً أديباً ورئيساً منيباً، فشقّ علي أن أدعها لقوم (...) يشتمون بسهوي وغلطي، إذا تصفحوها".
مع دولة الحداثة الأوروبية، لم تعد معركة المثقف مع السلطة تدور داخل المجتمع السياسي، ولا بالتصادم مع أجهزتها القمعية، بل داخل المجتمع المدني، ضد جهازها الثقافي الأيديولوجي، وبسندٍ من الرأي العام. وتقلصت الهوة بين الثقافتين، الشعبية والنُخَبية، إلى الحد الأدنى بتوسط الثقافة الجماهيرية.
اختُزلت "الثقافة الجماهيرية" في الأيديولوجيات العربية التي كانت الطبقات الوسطى حواملها الاجتماعية الرئيسية. وفي هيمنة السياسي على الثقافي، وجد المثقف العربي نفسه إما على يمين السلطة، أو على يسارها، ليمارس، في كلا الحالين، دوراً تحريضياً شعبوياً لا دوراً تنويرياً، فعجز عن زعزعة منظومة القيم التقليدية. ومع تصدع تلك الأيديولوجيات وشعاراتها، وإفقار الطبقات الوسطى وانهيارها، تعود الهوة واسعةً بين الثقافتين الشعبية والنخبية، وتسود قيمُ الثقافة الشعبية الوعيَ الاجتماعي.
لم يستطع المثقف تعديل سلوك السلطة، ولا البقاء في فضائها الذي اشترط توظيفاً مدروساً ومؤقتاً لجهوده. كما عجز عن الاندماج في محيطٍ من البسطاء، كان منبت مثقفين كثيرين، ليكتفي بمجتمعه الفرعي (شللية ثقافية)، أو يختار العزلة خلف أسواره المعرفية، ممارساً عنفاً رمزياً تجاه المجتمع، عبر طقوس التعالي المختلفة، بدءاً بتجريم إضافة السكر إلى القهوة، واللغة الفنية التي تحتار أمامها عقول البسطاء.
تحرّكت الجماهير من دون سند ثقافي، وكان من السهل في مواجهة غرائز الاستبداد وعنفه، الارتداد إلى القيم التقليدية، وإعادة إنتاج الهويات الفرعية، المستندة إلى غرائز القبيلة والعرق والطائفة. لم يستطع المثقف قيادة الحراك، وحلت مكانه قيادات تقليدية مارست استبداداً وعنفاً مضادّاً. أصرّ المثقف على سلطان الاستقواء بالآخر، ليكتشف، متأخراً، أن الآخر تحركه المصالح، لا القيم.