يوسف سلامة... فيلسوف العقل والثورة
انشغل المثقف والأستاذ الجامعي، الفلسطيني السوري، يوسف سلامة، بأبحاثه وعمله مفكّراً وأكاديمياً، سواء بالمنطق عند هوسرل أو السلب عند هيغل أو السلب واليوتوبيا عند هيغل وماركيوز، وحتى يوتوبيا الإسلام. خاض حواراته داخل القاعات الأكاديمية وفي لقاءاته مع تلاميذه وطلابه، وكاتب هذه السطور واحد منهم، غير عابئٍ بسجالات إعلامية، حرص عليها غيرُه من نجوم الاستعراض المعرفي. حمل همّاً مزدوجاً فلسطينياً سورياً، يبدو ثقيلاً لمن لم يختبره، وحافزاً لصاحبه ما استطاع إلى التفلسُف سبيلاً. عانى اللجوء المرّ مرّتين، فلسطينياً في الثالثة من عمره، وسورياً فلسطينياً في السابعة والستين منه. اقتنع يوسف سلامة مع هيغل بأن المعقول هو ما يمتلك إمكانية الحياة، وبما أن الإنسان وحده يمتلك فكراً، فلا حقيقة خارج أفق العقل البشري. مع المنهج الهيغلي، لا يمكن إلا الحديث عن تاريخ البشر، وعن أفضل الطرائق للتفكير. إنها الفلسفة تأتي متأخّرة، والتأخير هنا سرّ حكمتها، بعد أن تكون الحياة قد دبّت بين الناس بالفعل، لتتربّع على ما يسبقها من أنساق ونظم معرفية، لذلك يصفها هيغل في "فلسفة الحق"، بأنها "بومة منيرفا لا تبدأ بالطيران إلا بعد أن يُرخي الليل سدوله".
يعلمنا سلامة أن الحرّية هي الشرط الضروري لإنسانية الإنسان، وتبرز أولوية منطقية ووجودية على كل ما عداها، لأنها جوهر الوجود الإنساني الذي يُعبّر عن نفسه في الفعل المتعيّن في وجود اجتماعي محدّد، هو الوجود السياسي، وعلى هيئة نظام سياسي ديمقراطي. تتمثل الديمقراطية عند سلامة في قدرة الجميع على أن يُوجِدوا، على نحوٍ معيّن، تعبيراً عن كينونتهم الحرّة، إنها تشير إلى نوع من توزيع القوة المتساوي، وتتمثل هذه القوة في الفاعلية السياسية. عندما يكوّن المجتمع لنفسه هذا التصوّر عن الديمقراطية، يكون قد وصل إلى العقلانية، فاكتشاف أنسب الطرق التي تجعل الديمقراطية ممكنةً على المستويين الفردي والجماعي هي مهمّة العقل، الذي يضع الحلول لنوع من التواؤم بين فردية الفرد وجماعية الحياة الاجتماعية. قد لا يكون العقل واضعاً لشيء جديد بقدر ما يكون مسؤولاً عن حلّ مشكلاتٍ تثيرها الحرّية من حيث هي كينونة الإنسان، وتخلقها الديمقراطية من حيث هي ممارسة اجتماعية راقية تعبّر عن كينونة الإنسان الحر، بوصفه يحيا في الديمقراطية وفي قلبها. ويعلمنا سلامة أن المجتمع يصبح بُعداً رابعاً ضرورياً، لا بوصفه غاية بحد ذاته، بل بوصفه محلاً يُفترض أن يكون مناسباً يسمح للإنسان بالتعبير عن نفسه أو بتعيين حرّيته في نظام سياسي يصوغ العقلُ بنوده الأساسية، ما يسمح بتكوين مجتمع قادر على أن يستجيب لمتطلبات الحرية ولمقتضيات الديمقراطية منها. تشكّل تلك الشروط كلها ما يسميه سلامة "العلمانية"، التي لا يراها مشكلة ثقافية، فطرْحها على أنها كذلك يزيّفها ويجعلها مشكلة وهمية لا أساس لها، فالمشكلة في العالم العربي سياسية. ماذا لو توفرت لدينا أحسن النماذج العلمانية. من سيطبقها أو سيقبلها في مجتمعٍ غير ديمقراطي؟
يلحّ سلامة على أن الفكرة الواحدة لا تقوم عليها إلا حضارة واحدة، ومن هو قادرٌ على الإبداع لا يحتاج إلى الماضي
ومنذ تعيينه في العام 1987 مدرّساً في قسم الفلسفة بكلية الآدب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق، ولاحقاً أستاذاً للفلسفة الغربية في قسم الفلسفة، قاوم يوسف سلامة، مع قلّة من زملائه، محاولات تعليب الفضاء الأكاديمي السوري، وتصحيره وإفساده، فاتحاً قلبه ومكتبه، وحتى منزله في مخيّم اليرموك بدمشق، لطلابه ومريديه. وكانت الألفية الثالثة حقبة انتقل معها سلامة من التفكير بشكل فلسفي مجرّد في الصيرورة والتغير إلى التفكير بهما عيانياً. ولم يتردّد، وهو الفلسطيني السوري، في الانخراط في الفضاء السياسي، متمسّكاً بفلسطينيّته وسوريته في آن، مطلاً على الصالونات السياسية لمعارضين سوريين، وعضواً في منتدى الحوار الوطني الديمقراطي ــ ربيع دمشق في العام 2000، ودعا إلى تعديل المادة الثامنة من الدستور السوري التي تنصّ على أن "حزب البعث" هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، مفتخراً بأنه الفلسطيني السوري الأول الذي دعا إلى ذلك، رافضاً تكريس تلك المادّة الدستورية للحزب الواحد، الذي هو برأيه حزبٌ لا يمثل كل السورين، بل المتسلطين على الحزب.
يلحّ سلامة على أن الفكرة الواحدة لا تقوم عليها إلا حضارة واحدة، ومن هو قادرٌ على الإبداع لا يحتاج إلى الماضي، وقد استنفد مشروع الإصلاح الديني كلّ إمكاناته، ولم يعُد قادراً، في ضوء الأحداث في الشرق الأوسط أخيراً، على أن يمد المسلمين بما يتجاوز الحدود المرسومة لهم، فقد خشي الجميع، منذ البداية، أن يعني مفهوم "الإصلاح الديني" أن أمراً ما غير مستحبٍّ قد أصاب الدين أو ألمّ به، فبمقتضى إضافة "الإصلاح" إلى الدين، أو "الدين" إلى الإصلاح أصبح بوسع العقل البشري أن يتساءل: وهل الدينُ يفسُد؟ وإذا كان من الممكن للفساد أن يتطرّق إلى الدين، فهل بوسع العقل أن يُصلح ما فسد في الدين؟ برأيه، بثّت هذه الأسئلة الخطِرة الرعب في نفوس المسلمين وعقولهم، ولا تزال، فآثرت الأكثرية تفاديها والهروب من المسؤوليات الحقيقية التي يتعيّن على العقل أداؤها، ألا وهي المواجهة النقدية مع الشريعة التي لن يتقدّم المسلمون إلا إذا نهضوا بهذه المهمّة المصيرية. أما الفكرة القومية، التي ألحّت على الوحدة وسيلة وغاية، فقد انتهت، برأي سلامة، إلى الاستبداد، ما تسبب في كل إخفاق لاحق، وثبت أنه بدون الحرّية لا يمكن تحقيق الوحدة، بل لا يمكن تحقيق شيءٍ يدعونا سلامة إلى عدم الخجل من إعلان "انتهاء حقبة القومية العربية واضمحلالها، والتفكير في مفهوم جديد يكون مدخلاً فلسفياً ونظرياً وسياسياً يسمح بالتعامل مع الأوضاع القائمة كما هي، وليس كما يريد بعض الذين ما زالوا يعيشون أوهام الجامعتين الإسلامية والعربية".
يعلمنا سلامة أن المجتمع يصبح بُعداً رابعاً ضرورياً، لا بوصفه غاية بحد ذاته، بل بوصفه محلاً يُفترض أن يكون مناسباً يسمح للإنسان بالتعبير عن نفسه
جعله مطلب الحرية وفياً للثورة ومطالبها العادلة، واعتبر أن انحرافاتها طبيعية ما دام التاريخ يجري، فلو شهد روسّو، كما قال سلامة، "عصر الإرهاب في الثورة الفرنسية، ما غيّر رأيه ولا فلسفته التي كانت إحدى مقدمات الثورة". يرفض فيلسوف الصيرورة والتغير أن تكون الثورة السورية قد هُزمت ما دامت قد أسقطت الفكرة الجامعة التي قام عليها النظام عقوداً، لكنه حذّر من عدم امتلاك السوريين فكرة جامعة بديلة تحلّ التناقضات بينهم، والتي من دونها تفتقد الثورة، ولو انتصرت، الإطار الإنساني اللازم لتوحيد السوريين، لتحكُم بطريقة مشابهة لحكم النظام. لذلك، دعا إلى "الجامعة السورية" القائمة على مصلحة السوريين، من درعا إلى القامشلي وديريك والدرباسية والحدود العراقية، بوصفها فكرة جامعة "تتجاوز أفكارنا التقليدية عن الأكثريات والأقليات"، ليصبح كل السوريين بمقتضاها أكثريات. اتفق معي على سورية أولاً ثم كن ما تريد"؛ سورياً كردياً، سورياً عربياً، سورياً آشورياً، وحتى سورياً فلسطينياً. تلك الجامعة هي التي ستمنح جميع السوريين حقوقاً متساوية، حين تتخطّى فكرة المظلوميات، لأنهم جميعاً مظلومون، وتضع دستوراً يتوافق عليه الجميع فيحكم الجميع أنفسهم بأنفسهم، مع المحافظة على وحدة الدولة السورية.
في الرابعة من عمره أصيب سلامة برمد أفقده بصرَه بشكل شبه كلّي. لكنه امتلك بصيرة نافذة، قارعت ظلام عالمنا وكانت إحدى مقدّمات ثورتنا عليه، قبل أن يقضّ موتُه في منفاه السويدي مضاجعنا، ويستحق إرثه الفكري والأخلاقي منّا كل عناية واهتمام. رحل فيلسوف العقل والثورة، فتعازينا لكل محبّيه.