تروّج المنتجات الثقافيّة للموجودين ضمن طيف التوحد، كنوع من سياسات الاحتواء ونفي الصورة النمطيّة المرتبطة بهذا المرض، إذ نشاهد في مسلسل "بوستن ليغيل" (2004-2008)، جيري إسبنسون، المحامي العبقري الذي لا يزيح يديه عن فخذيه. كذلك هناك روي ماكينا من فيلم "بريديتور" الأخير (2018)، الطفل الذي يقال إن شخصيته تعتبر أول تمثيل لشخص مصاب بطيف التوحد في فيلم خيال علميّ. كذلك هناك شيلدون كوبر من "بيغ بانغ ثيوري" (2007)، الذي يقال إنه ضمن الطيف أيضاً، أما الأشهر فهو "رجل المطر" (1988)، الذي أدّى دوره داستن هوفمان، وتحول إثره إلى أيقونة شعبيّة متداولة ومحبوبة. المشترك بين هذه الشخصيات هو تصويرها على أنها انعزاليّة، وشديدة الذكاء، ذات مشاكل اجتماعيّة تحكمها وساوس مختلفة، لكنهم ممتازون في عملهم، ويدهشون من حولهم، لتأتي صورهم هذه كوسيلة لنزع صفة "الإعاقة" عن طيف التوحد والمصابين به.
أشهر المتلازمات ضمن طيف التوحد هي المسمّاة بـ "آسبرغر"، المصابة بها شخصيّة جيري إسبنسون، والتي يذكر اسمها صراحة ضمن المسلسل، ويتداول في مختلف المنتجات الثقافيّة، خصوصاً أن أعراضها ليست دوماً مثيرة للانتباه، كونها تتعلق بالتعبير غير اللفظي ومهارات التفاعل الاجتماعيّ، ما يؤدي إلى خلطها مع غرابة الأطوار في كثير من الأحيان.
ما يثير الاهتمام هو هانز آسبرغر (1906-1980)، طبيب الأطفال النمساويّ الذي سمّيت المتلازمة على اسمه، والذي يقال إن أعراض المتلازمة كانت تظهر عليه، وبدأ بتشخصيها لدى أطفال آخرين وإنقاذ حياتهم والعمل معهم على تطوير مهاراتهم الاجتماعيّة.
في الثمانينيات، نحتت لونا وينغ مصطلح "متلازمة آسبرغر"، ليصبح متداولاً طبياً ومعترفاً به. لكننا نكتشف في كتاب إيديث شيفر الذي صدر هذا العام بعنوان "أطفال آسبرغر: جذور التوحد في فيينا النازيّة" وحشية هانز آسبرغر، ونقرأ كيف أن جهوده لإنقاذ الأطفال ليست إلا جزءاً من اختبارات طبيّة نازيّة، للحفاظ على العرق الآري الصافي وتحسينه جينيّاً.
طوّر آسبرغر مفهوم "التوحد السايكوباتي"، مُشخصاً الذين لم يظهروا تعاطفاً مع أقرانهم، وقسم هذا المفهوم إلى فئتين؛ إيجابيّة ينجو الأطفال ضمنها بها بحياتهم، وسلبيّة؛ إذ يرسل آسبرغر من هم ضمنها إلى عيادة تخدير في فيينا، كان يُقتل فيها الأطفال لأنهم يهددون نقاء العرق الآري.
بقي اسم المتلازمة مرتبطاً بآسبرغر، الذي تابع حتى الثمانينيات مسيرته الأكاديميّة المليئة بالإنجازات، في تجاهل لتاريخه النازي، إلا أن الكتاب يكشف لنا، وبالوثائق، أنه كان مسؤولاً مباشرة عن قتل 44 طفلاً خضعوا للتجارب الطبيّة والتعذيب، وأدرجوا ضمن برامج قتل بيروقراطية-طبيّة، يخدرون فيها، ويحرمون من الطعام، ويتركون للفظ أنفاسهم الأخيرة، كما يشير الكتاب إلى أن هناك نحو 800 طفل قتلوا في هذه العيادة بعلم آسبرغر.
المثير للاهتمام أن تعريفات التوحد وتشخيصه كما في كتاب "أطفال آسبرغر" ظهرت في سياق نازيّ وعنصريّ، وبقيت نتائج هذه الأبحاث مستخدمة لفترة طويلة، بالاعتماد على هرم لتصنيف البشر، في "قمته" أطفال خارقون وفي "أدناه" عالة لا بد من التخلص منها، ما يحيلنا إلى التمييز والنفي اللذين رسختهما المؤسسة الطبيّة لسنوات قبل أن يعاد النظر في مفاهيم طيف التوحد، ومع ظهور جرائم آسبرغر للضوء، أصبح الاسم نفسه يختزل تاريخاً مأساوياً ولا إنسانياً، ما أبرز للساحة الثقافيّة والطبيّة جدلاً جديداً، حول ضرورة تغيير هذا الاسم، وعدم تجاهل ما يخفيه من تاريخ أسود، خصوصاً أن وانغ حين نحتت المصطلح عام 1981 لم تكن تدري ارتباط آسبرغر بالنازيّة.
التساؤلات السابقة عن التاريخ الطبي وارتباطه بمؤسسات عنصريّة وممارسات لا إنسانيّة، ينسحب على كثير من المصطلحات، كمصطلحي "تنظير الرحم" و"استئصال الرحم"، Hysteroscopie وHysterectomy اللذين يحويان بادئة هيستيريا.
اقــرأ أيضاً
المصطلح الذي نُفي من الطب النفسيّ، كونه يحيل إلى عمليات وحشية تعكس أوهاماً طبيّة تتعلق بالهيستيريا وكيفية علاجها باستئصال الرحم أو ملئه بالعلقات التي تمتص الدماء، ذات الشيء في كلمة "نوستالجيا" التي كانت تعتبر في القرن السابع عشر في الولايات المتحدة مرضاً عقلياً مميتاً، يرمى الخدم المشخصون بها في المصحات العقليّة بسبب حنينهم الشديد إلى أوطانهم.
صحيح أن كثيراً من هذه المصطلحات لم تعد تدل على أمراض محددة وألغيت من معاجم التشخيص الطبيّ، إلا أنّها وغيرها ما زالت حاضرة في الثقافة الشعبيّة ومتداولة في اللغة اليوميّة حاملة ذات الخصائص الطبيّة الوهميّة، والتاريخ القمعي من العنف والتمييز والسخرية المرتبط بها.
ما يثير الاهتمام هو هانز آسبرغر (1906-1980)، طبيب الأطفال النمساويّ الذي سمّيت المتلازمة على اسمه، والذي يقال إن أعراض المتلازمة كانت تظهر عليه، وبدأ بتشخصيها لدى أطفال آخرين وإنقاذ حياتهم والعمل معهم على تطوير مهاراتهم الاجتماعيّة.
في الثمانينيات، نحتت لونا وينغ مصطلح "متلازمة آسبرغر"، ليصبح متداولاً طبياً ومعترفاً به. لكننا نكتشف في كتاب إيديث شيفر الذي صدر هذا العام بعنوان "أطفال آسبرغر: جذور التوحد في فيينا النازيّة" وحشية هانز آسبرغر، ونقرأ كيف أن جهوده لإنقاذ الأطفال ليست إلا جزءاً من اختبارات طبيّة نازيّة، للحفاظ على العرق الآري الصافي وتحسينه جينيّاً.
طوّر آسبرغر مفهوم "التوحد السايكوباتي"، مُشخصاً الذين لم يظهروا تعاطفاً مع أقرانهم، وقسم هذا المفهوم إلى فئتين؛ إيجابيّة ينجو الأطفال ضمنها بها بحياتهم، وسلبيّة؛ إذ يرسل آسبرغر من هم ضمنها إلى عيادة تخدير في فيينا، كان يُقتل فيها الأطفال لأنهم يهددون نقاء العرق الآري.
بقي اسم المتلازمة مرتبطاً بآسبرغر، الذي تابع حتى الثمانينيات مسيرته الأكاديميّة المليئة بالإنجازات، في تجاهل لتاريخه النازي، إلا أن الكتاب يكشف لنا، وبالوثائق، أنه كان مسؤولاً مباشرة عن قتل 44 طفلاً خضعوا للتجارب الطبيّة والتعذيب، وأدرجوا ضمن برامج قتل بيروقراطية-طبيّة، يخدرون فيها، ويحرمون من الطعام، ويتركون للفظ أنفاسهم الأخيرة، كما يشير الكتاب إلى أن هناك نحو 800 طفل قتلوا في هذه العيادة بعلم آسبرغر.
المثير للاهتمام أن تعريفات التوحد وتشخيصه كما في كتاب "أطفال آسبرغر" ظهرت في سياق نازيّ وعنصريّ، وبقيت نتائج هذه الأبحاث مستخدمة لفترة طويلة، بالاعتماد على هرم لتصنيف البشر، في "قمته" أطفال خارقون وفي "أدناه" عالة لا بد من التخلص منها، ما يحيلنا إلى التمييز والنفي اللذين رسختهما المؤسسة الطبيّة لسنوات قبل أن يعاد النظر في مفاهيم طيف التوحد، ومع ظهور جرائم آسبرغر للضوء، أصبح الاسم نفسه يختزل تاريخاً مأساوياً ولا إنسانياً، ما أبرز للساحة الثقافيّة والطبيّة جدلاً جديداً، حول ضرورة تغيير هذا الاسم، وعدم تجاهل ما يخفيه من تاريخ أسود، خصوصاً أن وانغ حين نحتت المصطلح عام 1981 لم تكن تدري ارتباط آسبرغر بالنازيّة.
التساؤلات السابقة عن التاريخ الطبي وارتباطه بمؤسسات عنصريّة وممارسات لا إنسانيّة، ينسحب على كثير من المصطلحات، كمصطلحي "تنظير الرحم" و"استئصال الرحم"، Hysteroscopie وHysterectomy اللذين يحويان بادئة هيستيريا.
صحيح أن كثيراً من هذه المصطلحات لم تعد تدل على أمراض محددة وألغيت من معاجم التشخيص الطبيّ، إلا أنّها وغيرها ما زالت حاضرة في الثقافة الشعبيّة ومتداولة في اللغة اليوميّة حاملة ذات الخصائص الطبيّة الوهميّة، والتاريخ القمعي من العنف والتمييز والسخرية المرتبط بها.