01 مايو 2016
متطلبات النضال والقيادة.. والمعارضة السورية
ثمّة أسباب موضوعية عديدة تجعل من قادة مرحلة ما غير مؤهلين لقيادة مرحلة مغايرة، منها سببان رئيسان: اختلاف طبيعة المراحل ومتطلباتها، وما تتركه تلك المراحل من تأثيرات عميقة على قادتها.
يَفتَرض السبب الأول قادةً بمؤهلات خاصة، تتناسب مع كل منها، فالقيادة في مرحلة الحرب تتطلب مهارات ومؤهلات من نوع معين، تختلف عن القيادة في مرحلة السلم والسلام وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية، لأن أهداف المرحلتين وأدواتهما مختلفة، ويلحق الاختلاف، الجذري أحياناً، بالقوانين والأعراف والعلاقات، فأهداف مرحلة الحرب كسب الحرب، ولذلك يتم تسخير كل موارد البلاد وطاقاتها، وتتعطل الحياة السياسية والعملية الديمقراطية والدساتير والقوانين العادية، بهذا المقدار أو ذاك، وتُعطى للقيادة صلاحيات استثنائية، وتسود الأحكام العرفية، ويصبح كل شيء في خدمة المعركة. ومن الطبيعي أن يقود المرحلة عسكريون محترفون ومخططون استراتيجيون، يتمتعون بمهارات وكفاءات حربية مناسبة. بعد الحرب، هناك أهداف أخرى، هي تحقيق السلام وربما التصالح مع أعداء الأمس، وتنصرف الجهود إلى الإصلاح وإعادة الإعمار وتدوير عجلة الاقتصاد ورفع معدلات النمو. وتتطلب هذه الأهداف الجديدة قادة يمتلكون مهارات سياسية إدارية واقتصادية، يندر توفرها في العسكريين. وما قيل عن اختلاف مرحلتي الحرب والسلم، يقال عن المراحل الأخرى، فمرحلة الاستبداد تختلف عما يليها، ومرحلة الثورة تختلف عما سبقها، ومرحلة اقتصاد السوق تختلف جذرياً عن مرحلة الاقتصاد الاشتراكي الموجّه، ولكل منها قادتها.
السبب الثاني، ما تتركه المراحل التاريخية، الطويلة والقاسية منها خصوصاً، من بصماتٍ على نفسية وطريقة تفكير قادتها وسلوكهم، حتى إنها تكاد تطبعهم بطابعها، ويصعب عليهم التخلص من آثارها، عندما تتغير المرحلة ويستحق التغيير، فيتصرفون بهديها، إذا استمروا، وتكون النتائج كارثية غالباً، لأن مؤهلاتهم التي كانت ملائمة لمرحلة مضت تصبح غير ملائمة للأخرى، ويصبحون عبئاً على البلد أو الحزب أو المؤسسة التي يتولون قيادتها، وهم لا يدركون غالباً هذه النقطة، ويرون أنفسهم فرساناً لكل الأزمنة، ويصبح استبدالهم مسؤولية الآخرين، بصناديق الاقتراع، إذا توفرت الآليات الديمقراطية، وعبر العنف أو التآمر، أو ما تيسر من طرق غير طبيعية، عندما تُقفل الطرق الديمقراطية، مع ما قد يستوجبه خلعهم من تحطيم وتكسير، إذا كانوا مستحكمين.
في الحالة السورية، يمكن تمييز مرحلتين رئيستين استثنائيتين، في العقود الخمسة المنصرمة، الاستبداد مع حكم عائلة الأسد ثم الثورة. تمتد الأولى منذ انقلاب الأسد الأب في 1970 وتأسيس نظام الطغمة القائم، والثانية مستمرة منذ بدء الحراك الثوري في ربيع 2011. وعلى الرغم من أن النظام لم يتغيّر، إلا أن الحراك الثوري أدخل البلاد في مرحلة جديدة، مختلفة بكل المقاييس. لذلك، يصح الكلام عن مرحلة جديدة، وإنْ ببقاء النظام.
يمكن، أيضا، لأغراض هذا المقال، قسمة مرحلة الاستبداد إلى مرحلتين، الأسد الأب (1970- 2000) والأسد الابن (2000 –)، لأن ثمة اختلافات بينهما، شكلية بالتأكيد لجهة النظام، لكنها تركت آثارها الواضحة على الحياة السياسية والقوى السياسية في البلاد.
أسس الأسد الأب نظاماً استبدادياً أمنياً، لا مكان فيه للمشاركة والاختلاف والرأي الآخر، فصادر الحريات وكمّ الأفواه ولاحق المعارضين بلا هوادة، وتصاعدت قسوة نظام الأسد تجاه معارضيه، مع بداية العقد الثاني من حكمه، على خلفية صراعه الدموي مع "الإخوان المسلمين" وطليعتهم المقاتلة، فلاحقهم بشدة، وأخضع من اعتقله منهم لعنف مفرط، وأودعهم السجون سنوات، ما أجبر قوى المعارضة على التخفي واللجوء إلى العمل السري، لتجنب البطش ومزيد من الاعتقالات، ويمكن القول إن مرحلة العمل السري استغرقت طوال فترة حكم الأسد الأب (30 سنة) من دون انقطاع. وفي هذه الظروف، وتحت وطأة الملاحقات الأمنية، يتقلص نشاط الحزب المعارض إلى الحدود الدنيا، ويصبح همُّ قادته الرئيس المحافظة على الكوادر الموجودة وحمايتها من الاعتقال، فتُتَّخذ الإجراءات الاحتياطية القاسية في الحركة والتواصل والاجتماع واللقاء، ويدخل الحزب في سُباتٍ للمحافظة على الكيان بالحد الأدنى، ريثما تتغيّر الظروف، فيُختزل العمل السياسي إلى مجرد اجتماعات سرية في الغرف المغلقة، وإلى مجرد جريدة فقيرة، تصدر بين حين وآخر، وتُقتصر حدود علاقة المجموعة الحزبية على مسؤولها، صلة الوصل الوحيدة بينها وبين الآخرين، وتُنقل التعليمات والتوجيهات شفهياً، فالأوراق والهواتف عنصر خطورة. وتتوقف المهمات والمشاريع، وتنعدم البرامج والرؤى (في حال وجودها)، وتؤجل المؤتمرات، وتجمّد النقاشات والخلافات، وتتعطل الحياة الديمقراطية بالكامل (نفترض أنها موجودة أساساً).
تركت مرحلة العمل السري في ظل نظام الطغمة الأسدية، بحكم عمرها الطويل وقسوتها المفرطة، آثارها الجسيمة على قيادات المعارضة، وطبعتها بطابعها، فاعتادت هذه العمل الفردي، وسيطرت عليها الريبة في كل شيء، وفي كل الناس، وأحاطت نفسها ببطانةٍ مأمونةٍ ومطيعة، وأصبحت تستخدم بعض أساليب النظام في إبعاد المختلفين والطموحين، كالتشهير والتهم الجاهزة.
وكانت حالة العمل السري في أثناء حكم الأسد، وبغض النظر عن الظاهري والمعلن، مناسبة ومريحة لمعظم قيادات المعارضة السورية، لأن العمل السري في ظل نظام أمني متغول، على خطورته، يضفي على هذه القيادات أبعاداً نضالية وبطولية، ويوفر لها ستاراً شرعياً مبرَّراً، يحجب عيوبها ونقاط ضعفها، حيث لا نشاط أو حراك يستدعي إظهارها. ومن جانب ثالث، يمكّنها من السيطرة المطلقة على التنظيم والتفرد بالقرار وإبعاد المختلفين.
في مرحلة الأسد الابن، حصل تغيّر ظاهري في طريقة تعاطي النظام مع المجتمع والقوى السياسية، بدا لكثيرين، حينها، تطوراً إيجابياً حقيقياً، يعكس رؤية مختلفة للقيادة الجديدة الشابة لشكل العلاقة وطريقة التعاطي مع المجتمع، واستيعاباً أفضل لمفاهيم الحرية والمواطنة والمشاركة وقيمها. دفعت إلى هذا الاعتقاد مؤشرات عديدة، بداية بخطاب القسم، مروراً بانتشار المنتديات السياسية والثقافية التي ناقشت ما كان محرماً نقاشه، إضافة إلى مؤشراتٍ أخرى.
تطلبت المرحلة التالية، مرحلة الثورة، بذل كل الجهود، واستخدام كل الإمكانات والمهارات، ولم يعد ثمة مبرر للتقاعس والتهرب تحت أي عذر، فالفرصة تاريخية، والمجتمع أمام مخاض قاتل، وثمن الوقت دماء بشر ومستقبل بلد، فإذا بنا نُفاجأ أن تلك القيادات عاجزة عن فعل شيء ذي قيمة على كل الصعد، بل كان ضررها أكبر من نفعها غالباً، وكان وجودها وتحركها عبئاً على الثورة، أكثر منه قوة وسنداً وغطاء لها.. والآن، وبعد أربع سنوات ونصف على بدء الثورة، وبعد كل المآسي والأثمان المدفوعة، لم يبدلوا شيئاً، ولم يتعلموا من شيء.
لا تتحمل قيادات المعارضة، بمفردها، مسؤولية ضعفها وبؤسها، وتمسكها المقرف بالقيادة، مهما كانت المرحلة وكان الثمن، بل نشاركها المسؤولية جميعنا، نحن أبناء هذه المعارضة خصوصاً، والمثقفون منا بخصوصية أكثر، لأننا سمحنا بنمو هذه الظواهر المرضية داخل أحزابنا ولدى قياداتنا، ولم نمارس دورنا المطلوب في المقاومة والنقد، لمبرراتٍ لا تستحق الاحترام غالباً، فكانت النتيجة الطبيعية أن يتفرعن فِرعون، لأنَّ أحداً لم يمنعه.
نقطة مهمة أخرى، هي شدة تأثير الجانب العاطفي على سلوكنا وأحكامنا كمجتمع، على حساب المنطق والعقل والعلم والمصالح، فللمناضل الذي يتحدّى نظاماً عاتياً، مع ما يتطلبه ذلك من تضحية وجرأة، مكانة خاصة في نفوسنا ووجداننا، وهذا طبيعي. غير الطبيعي مبالغتنا في هذا التقدير، ورفعه إلى مستوى القداسة، من جانب. واعتبار هذا التاريخ النضالي مؤهلاً كافياً، ومعياراً رئيساً، وحقاً طبيعياً لتبوؤ سدة القيادة حتى الموت، من جانب آخر، بصرف النظر عما يتطلبه موقع القائد من إمكانات ومهارات سياسية وثقافية وإدارية، وبغض النظر عما يتطلبه من مواصفاتٍ شخصية في الإقناع والتواصل، وبغض النظر عما يملكه من قيم وقناعات في قضايا حاسمة، كالديمقراطية والمشاركة والعمل المؤسسي.
أن تكون مناضلاً شجاعاً تتحدّى الاستبداد والسجان والسجون شيء، وأن تكون قائداً ناجحاً تقود حزبك، أو بلدك، باقتدار نحو الأفضل شيء آخر. وأن تأخذ حقك، كمناضل، من التعاطف والعرفان بالجميل شيء، وأن تُكافأ بمنصب القيادة شيء آخر. وأن تكون قائداً ناجحاً في مرحلةٍ ما لا يعني، أبداً، أن تكون ناجحاً في مرحلة مختلفة، فخلط الأمور بهذه الطريقة الاعتباطية قد يكلف أثماناً باهظة، وها نحن ندفعها.