01 مايو 2016
السوريون والدور التركي: غياب العقل والسياسة
حتى الأمس القريب، قبل العام 2002، كانت تركيا تصنف في خانة الأعداء من غالبية السوريين، بحكم تاريخها الاستعماري الطويل والقاسي والثقيل، ثم بحكم تعاملها الفوقي والجلف مع الشرق العربي، ومع سورية خصوصاً، وتركيزها عقوداً على خطب ود الأوروبيين مع إهمال المنطقة العربية، وبحكم عضويتها في حلف شمال الأطلسي، ثم، وهذا الأهم، بحكم علاقاتها المتميزة مع عدونا التاريخي إسرائيل.
بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا عام 2002، بدأت عواطف سوريين كثيرين تجاه تركيا بالتغير، مبدئيا بحكم العامل الديني، فالعدالة والتنمية الذي تسلّم السلطة في ذلك العام حزب محافظ من أصول إسلامية، تم تشكيله من بعض كوادر حزب الفضيلة الإسلامي الذي حُلّ في العام 2001 بقرار من المحكمة الدستورية. ساعد على هذا الميل الجديد نحو تركيا صعود الإسلام السياسي في سورية والعالم العربي، والذي يرى في تركيا السنية صديقاً وحليفاً، وربما قائداً للأمة الإسلامية المنشودة. ثم تزايد التعاطف تدريجيا مع انفتاح الحكومة الجديدة نحو الشرق ومد يد الصداقة للعرب، والاشتغال الدبلوماسي المكثف والمدروس على تحسين العلاقات معهم، وخصوصاً مع سورية، مع خطاب تصالحي معتدل ومتعاطف، مع نظرية صفر المشاكل مع الآخرين... إلى أن جاءت الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة في نهاية العام 2008 لتعطي للعلاقة مع تركيا دفعة هائلة، فموقف تركيا من تلك الحرب وما تلاها فتح بوابة القلوب على مصراعيها، لأن موقف الآخرين من القضية الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، بالنسبة للعرب عموما، والسوريين خصوصاً، هو المعيار الرئيس الذي يعتمدونه في تصنيف الأصدقاء والأعداء، فكان الموقف التركي الذي انحاز بشدة إلى جانب الفلسطينيين، ودان بشدة حكومة إسرائيل واتهمها علنا بالعدوان وقتل الأطفال، كالرصاصة التي اخترقت قلوب الشعوب العربية من دون استئذان، ومن دون حاجة إلى التساؤل عن خلفية هذه الموقف وأسبابه وأبعاده، والتي قد يكون من بينها غضب الحكومة التركية مما اعتبرته غدراً إسرائيلياً وطعنة لئيمة لجهودها في مفاوضات السلام التي كانت تديرها بين سورية وإسرائيل، عشية العدوان على غزة، وقد يكون من بينها رغبة الحكومة التركية في إرضاء الشعب التركي المسلم المحافظ، المتعاطف عموماً مع الفلسطينيين، وقد يكون من بينها، وأنا أعتقد ذلك بشدة، استغلال فرصة ذهبية، بذكاء يُحسب لأردوغان، لكسر الحواجز مع العرب وامتلاك قلوبهم عبر نقطة ضعفهم التي يفهمها أردوغان جيداً، وهي الموقف من إسرائيل والقضية الفلسطينية.
يعرف الجميع، وليس الأتراك فقط، هذه الخاصرة الرخوة لدى العرب، ويحاول الجميع استغلالها والنفاذ منها لتحقيق أهدافهم، فأنظمة الممانعة والمقاومة استغلتها أحسن استغلال، وعبر بوابة المقاومة والممانعة والتصدي لإسرائيل ومشاريع الهيمنة، حكمت شعوبها بالحديد والنار نحو نصف قرن. وكان نظام الأسد أكثرها نجاحا في ذلك، ولطالما استطاع تخدير كثيرين بهذا الموقف المقاوم المعلن، مع أنه كان واضحا لكل ذي عقل وبصيرة أنه نظام طغمة بوليسية مافيوية، تمعن في البلد والمجتمع، نهبا وتخريبا وتسطيحا وإفقاراً.
لعب قادة إيران أيضا على الوتر نفسه، واستغلوا نقطة الضعف هذه، واستطاعوا النفاذ منها إلى قلب المجتمعات العربية، والعبث بمكوناتها الطائفية، وتخريبها من الداخل، ما استطاعوا إليه سبيلا. فغالبية العرب، بمن فيهم السنة، كانوا مع الثورة الإسلامية الإيرانية في بداياتها، بغض النظر عن طابعها المذهبي الديني، وبغض النظر عن انقلاب الخميني على شركائه في الثورة وتصفيتهم، وبغض النظر عن أمور كثيرة، كالحرب مع العراق، والاحتفاظ بالجزر الإماراتية الثلاث... والتي كانت تشير، بوضوح، إلى تكريس نظام ديني إقصائي، له أجندات مريبة. وكان ذلك يهون أمام موقف العداء المعلن لإسرائيل ومساندة القضية الفلسطينية.
نعود إلى الدور التركي، فإضافة إلى الموقف من القضية الفلسطينية، جاء الموقف المؤيد بوضوح وقوة للثورة السورية عاملاً إضافياً مهماً لكسب قلوب السوريين، وإن لم يتعد هذا الموقف حدود التصريحات، وإن كانت هذه سببا رئيسا في توريط قادة المعارضة، ورفع سقوف مطالبهم بلا أساسات ولا أعمدة.
تضاف إلى ما ذكر أعلاه عوامل أخرى ساهمت في ترسيخ هذه الاندفاعة العاطفية السورية تجاه الأتراك، منها استقبال تركيا مليوني لاجئ سوري على أراضيها، وفتح أبواب التعليم والعمل والإقامة أمامهم، ومنها الخوف من صعود المشروع الإيراني في المنطقة، وفهمه من الغالبية مشروعاً مذهبياً بالدرجة الأولى، وقناعتهم أنه ليس ثمة من يستطيع الوقوف في وجهه غير تركيا السنية القوية.
لكن هل العواطف متبادلة؟ وهل ينتصر الأتراك لقضايانا من المنطلقات العاطفية أو الدينية نفسها؟ بالتأكيد لا، فتركيا دولة إقليمية كبيرة وقوية وطموحة، تحتل موقعا جغرافيا استراتيجيا بالغ الأهمية، وهي من أهم أعضاء حلف شمال الأطلسي عسكرياً، ولها مكانة مميزة في العالم الإسلامي، وتتمتع بمقومات الدولة الوطنية الحديثة، ولديها مؤسساتها الوطنية المنتخبة، ونظامها العلماني المستقر، واقتصادها القوي، ولديها مجتمع مدني فاعل، وحياة سياسية نشطة ومتطورة، واستقرت فيها قواعد اللعبة الديمقراطية. تحكمها حكومة وطنية براغماتية واثقة وقوية، بحكم قاعدتها الشعبية الواسعة، وتؤمن هذه الحكومة بقواعد اللعبة الديمقراطية، ومبادئ العلمانية، وتعمل بهديها على الرغم من جذورها الإسلامية التي لا تعدو أن تكون مرجعية أخلاقية لها، وهي تفهم تماما لغة السياسة والمصالح، وتعرف موقع بلادها ومكانتها في المنطقة والعالم، وتدرك نقاط قوتها، كما تدرك نقاط ضعفنا، وتحرص على مصالح بلادها الوطنية، وعلى تقدمها، وعلى أمنها القومي.
ولا يمكن لحزب العدالة والتنمية، ولا لغيره، أن يحكم بأجندات إسلامية، كما يحلو لبعضهم أن يعتقد، ولا أن يتجاهل لحظة قواعد العلمانية التي يتوافق عليها جميع الأتراك، وما يبدو لبعضهم تراجعاً عن علمانية الدولة لصالح برامج إسلامية، إن هو إلا تخفيف من غلواء العلمانية التركية القاسية، وتحويلها إلى علمانية معتدلة متصالحة مع ثقافة مجتمعها المسلم وطبيعته لا أكثر، وأرى ذلك أمراً بالغ الأهمية لاستقرار تركيا، حيث يكون نظام الحكم أقرب إلى الناس، وأكثر انسجاما مع طبيعة المجتمع.
من هذه الخلفية المصلحية الوطنية، تنظر الحكومة التركية إلى قضايانا، وتبني مواقفها حيالها، وتعرف كيف تستغل حاجتنا وعاطفتنا ونقاط ضعفنا لخدمة مصالحها الحيوية، فلا بأس من الحديث عن العثمانية الجديدة، طالما أنها تشكل مدخلا جيدا للاختراق والنفوذ، ولا بأس من اتخاذ المواقف الجريئة من إسرائيل طالما أن ذلك يدغدغ مشاعرنا، على الرغم من أن علاقاتها بإسرائيل لم تنقطع يوما، مع الأزمات الدبلوماسية التي تعترضها، بل هي في تطور، ولا بأس من دعم الثورة السورية ضد نظام الأسد، طالما أن ذلك يدفعنا إلى محبتها والتسليم بقيادتها، ولم لا، طالما أنه لا مستقبل للأسد، وطالما أن الدعم لا يتجاوز عتبة الخطابات.
هكذا نحن السوريين، تطغى عواطفنا على عقولنا، وتجعلنا لا نبصر، أو نبصر ونتجاهل، عوامل أساسية حاسمة في قضايانا المصيرية وتحالفاتنا وصداقاتنا، إلى أن تأتي صدمة ما تعيدنا إلى صوابنا، ولكن، غالبا بعد فوات الأوان.
عمل نظام الطغمة على إفقارنا سياسيا وفكريا وثقافيا وحضاريا، وخرّب كل مقومات قوتنا، وشل مناعتنا وقدرتنا على المقاومة، وجلب لنا كل الأعداء والطامعين والطامحين، فأصبحنا كالغريق الذي يتعلق بقشة، نتهافت على كل قوي نتوسم فيه حمايتنا والحفاظ على شيء من حقوقنا وكرامتنا، ونسقط عليه كل أحلامنا وأمانينا، بعيدا عن العقل، وعن منطق السياسة وأدواتها.
لن تكون الحكومة التركية إلا مع مصالح شعبها، ولن يكون همها إلا الانتخابات المقبلة وصناديق الاقتراع، وهي ليست معنية بهواجسنا وأحلامنا وعواطفنا إلا بمقدار ما يساعدها ذلك على تحقيق مصالحها، وعدم إدراكنا هذه النقطة الحاسمة قد يدفعنا إلى التفريط بمصالحنا من دون مقابل، وقد يجر علينا إحباطات وخيبات جديدة، لا طاقة لنا على احتمالها.
ليس أمامنا سوى رَكن العواطف والرغبات جانبا، وإعادة الاعتبار إلى العقل والسياسة، وفهم منطق المصالح الذي يحكم تفكير الدول وسلوكها، وإلا فستكون الخيبات حصادنا الوحيد.