بغضّ النظر عن الموقف الحالي من الدولة العثمانية، وخصوصا في بعض الدول المنبثقة منها، فإن الحدود الإدارية داخل الدولة العثمانية للولايات والباشويات والمتصرفيات تحولت إلى أساس للكيانات الحديثة، التي نعرفها، مع بعض التعديلات هنا وهناك. فباشوية بلغراد (كانت الولايات تسمى باسم مراكزها) أصبحت نواة صربيا، التي استقلت عام 1878 وتوسعت لاحقا مع الحرب البلقانية، على حين أنها مع حروب يوغسلافيا 1991-1999 عادت إلى حدودها العثمانية تقريباً. وحين قامت يوغسلافيا الفدرالية عام 1945، تم اعتماد الحدود العثمانية لـ"جمهورية البوسنة" التي أصبحت من جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي الست.
وإذا تجاوزنا بعض الولايات العربية،(مصر وتونس وطرابلس الغرب وغيرها)، نجد لدينا متصرفيتين متميزتين في المشرق: متصرفية جبل لبنان التي تأسست عام 1861 وتحولت إلى "دولة لبنان الكبير" في 1920، ومتصرفية القدس، التي تأسست عام 1874 وتحولت إلى فلسطين تحت الاحتلال ثم الانتداب البريطاني. ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي جاء متأخرا "متصرفية القدس 1874-1914" (عمان: دار ورد 2016)، للمؤرخ الفلسطيني الأردني، عبد العزيز عوض، وهو من مواليد قضاء يافا 1942، ومن الجيل الكبير من المؤرخين (علي محافظة ومحمد عدنان البخيت ويوسف غوانمة وغيرهم) الذين تأسست معهم أقسام التاريخ في الجامعات الأردنية (الجامعة الأردنية واليرموك ومؤتة وغيرها). وبالمقارنة مع غيره، لفت عوض الأنظار مبكرا إليه مع رسالته للماجستير "الإدارة العثمانية في ولاية سورية "، التي نشرت في القاهرة عام 1969، ولذلك انتقل للعمل فورا في الجامعات السعودية، وذلك بعد إتمام مناقشة رسالته للدكتوراه عن "متصرفية القدس 1874-1914" في جامعة عين شمس المصرية عام 1970. وفي 1977 التحق بجامعة اليرموك ليكون من مؤسسي قسم التاريخ فيها، الذي تميز خلال الثمانينيات بنخبة من المؤرخين من الشرق الأوسط (خليل ساحلي أوغلو ولطفي عبد الوهاب ودرويش النخيلي وسيار الجميل وغيرهم).
ومع أن عوض وسّع اهتماماته البحثية لتشمل الخليج العربي بحكم عمله هناك، إلا أن فلسطين بقيت تستأثر باهتمامه في الأبحاث والأوراق، التي شارك بها في الندوات والمؤتمرات الدولية، فنشر عام 1983 "مقدمة في تاريخ فلسطين الحديث"، وتناولها في مؤلفاته الأخرى، مثل "بحوث في تاريخ العرب الحديث" و"الاتجاهات السياسية في بلاد الشام". ومع ذلك كان من المفاجىء أن تقوم "دار ورد" الأردنية بنشر رسالته للدكتوراه بعد حوالى 45 سنة على إنجازها. وربما يبرّر للدار هنا ما يقوله زميله عدنان البخيت: "إن رسالة الدكتوراه تبقى هي الإنجاز الأفضل"، ولذلك سعى خلال رئاسته جامعة مؤتة إلى نشر رسائل الدكتوراه لأعضاء هيئة التدريس، على الرغم من مرور سنوات على مناقشتها.
في ما يتعلق بـ"متصرفية القدس"، تجدر الإشارة إلى أن الحدود الإدارية لبلاد الشام خلال الحكم العثماني عرفت تغيرات متواصلة، قبل أن يستقر الوضع في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. فقد شكلت إسطنبول ولاية واحدة تضم كل بلاد الشام، وبعد عدة عقود تشكلت أربعة ولايات (دمشق وحلب وطرابلس وصيدا، التي كانت تضم جنوب لبنان وفلسطين) وبقي الوضع عرضة للتعديلات إلى أن جاء الحكم المصري 1831-1840، وبعد عودة الحكم العثماني تشكلت ثلاث ولايات: ولاية دمشق، التي كانت تضم شرق الأردن، وولاية حلب، التي امتدت في الأناضول، وولاية صيدا/ ولاية بيروت منذ 1888 التي شملت فلسطين، بالإضافة إلى متصرفية جبل لبنان عام 1861 ومتصرفية القدس، التي فصلت عن ولاية صيدا لتصبح مرتبطة مباشرة بإسطنبول.
ويلاحظ هنا أن حدود هذا الكيان الإداري الجديد شملت أقضية القدس ويافا الخليل وغزة وبئر السبع، بينما بقي لواء نابلس فقط ضمن ولاية صيدا / بيروت لاحقا، الذي عكس تشكيله حرص الباب العالي على وضعه تحت رقابته المباشرة مع تزايد الاهتمام الإنجليزي والاستيطان الصهيوني الجديد في فلسطين. وفي هذا السياق ظهرت في القدس، كما في مراكز الولايات المجاورة، الجريدة الرسمية "القدس" باللغتين العربية والتركية عام 1876. ومع أن هذا الكيان الجديد، الذي كان يضمّ معظم فلسطين الحالية، بقي يسمى رسميا "متصرفية القدس"، إلا أنه أخذ يبرز في الخرائط العثمانية تحت اسم فلسطين، وذلك مع تصاعد الاهتمام الأوروبي وبروز المشروع الصهيوني، الذي أثار بدوره الحراك الوطني الفلسطيني الحديث الذي عكسته الصحافة الفلسطينية الجديدة (الكرمل، فلسطين وغيرها).
وبالعودة إلى كتاب عوض، يحرص المؤلف أولا على توضيح الظروف التي سبقت تشكيل "متصرفية القدس" في 1874، ثم استعراض "أجهزة الحكم والإدارة" في الفصل الأول، ثم يتناول "التطور الاجتماعي والاقتصادي في مدن المتصرفية" في الفصل الثاني، و"التطور الاجتماعي والاقتصادي في الريف" في الفصل الثالث، وصولا إلى أهم متغيّر خلال حكم السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909: الهجرات اليهودية، التي أخذت تغيّر في الطابع الديمغرافي حتى "أصبحت القدس المدينة الوحيدة في المتصرفية، التي لم يشكل المسلمون أكثرية سكانية فيها"، بحسب الإحصاءات في تلك الفترة، وهو ما أدى بدوره إلى بروز الوعي الوطني الفلسطيني الحديث، الذي كان ينتقد أحيانا الصمت أو التجاهل العربي له. ومع أن المؤلف يعترف بأن عدد اليهود في فلسطين تضاعف حوالى ثلاث مرات خلال حكم السلطان عبد الحميد (ص 286)، إلا أنه ينتهي إلى حكم قاطع يفيد بأن "السلطان ظلّ طيلة حكمه عقبة كأداء في وجه المشاريع اليهودية، وبخاصة الصهيونية منها في فلسطين.. ويبدو أن الشكوك التي ساورت السلطان في شأن النوايا الصهيونية كانت قوية جدا، وأدت لأن يرفض السلطان جميع إغراءات الصهيونيين المالية" (ص 304-305)، وهو الشي الذي تعارضه تماما تلميذته، فدوى نصيرات، في كتابها "دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876-1909" (بيروت 2014).
وفي الحقيقة أن الفصل السابع والأخير، "الاستيطان اليهودي"، هو الأهم في وقته، وخاصة في ما يتعلق بالوعي الفلسطيني المبكر للمشروع الصهيوني، والاختراق الصهيوني للمشروع العربي وصولاً إلى مؤتمر باريس 1913 (المؤتمر العربي الأول)، حيث أنه اعتمد على الأرشيف العثماني والمذكرات والدراسات الحديثة الصادرة حتى 1969، وكان يمكن أن يبقى كذلك لو أن الكتاب نشر في 1970. ولكن عدم نشر رسالة الدكتوراه في وقتها فسح المجال لباحثين آخرين لأن يكتبوا ويتوسعوا في ذلك، مثل زميلته في جامعة دمشق، خيرية قاسمية، التي نشرت عام 1973 كتابها "النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه" وبيان نويهض الحوت التي تناولت هذا الموضوع في الفصل الثالث من كتابها "فلسطين القضية - الشعب-الحضارة" (بيروت 1991)، وترجم الياس شوفاني كتاب يوسف لمدان "العرب والصهيونية 1882-1914" (دمشق 2009) وغيره.
وأخيرا لا بد من ملاحظة نقدية أخرى للناشر تتعلق هذه المرة بغلاف الكتاب، فقد كان من المفترض أن يكون الغلاف منسجماً مع موضوعه، أي عن فلسطين خلال 1874-1914، ومع اختياره الجامع الأقصى للغلاف كان يمكنه أن يختار واحدة من عشرات الصور عن الأقصى من تلك الفترة، التي نشرت في أكثر من كتاب من قبل مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في إسطنبول "ارسيكا"، ولكن الناشر شاء أن يختار صورة حديثة للأقصى مع خلفية إسرائيلية مسيطرة على الآفاق.
(أكاديمي كوسوفي/ سوري)
اقرأ أيضا
صور نادرة تحكي تاريخ القدس
وإذا تجاوزنا بعض الولايات العربية،(مصر وتونس وطرابلس الغرب وغيرها)، نجد لدينا متصرفيتين متميزتين في المشرق: متصرفية جبل لبنان التي تأسست عام 1861 وتحولت إلى "دولة لبنان الكبير" في 1920، ومتصرفية القدس، التي تأسست عام 1874 وتحولت إلى فلسطين تحت الاحتلال ثم الانتداب البريطاني. ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي جاء متأخرا "متصرفية القدس 1874-1914" (عمان: دار ورد 2016)، للمؤرخ الفلسطيني الأردني، عبد العزيز عوض، وهو من مواليد قضاء يافا 1942، ومن الجيل الكبير من المؤرخين (علي محافظة ومحمد عدنان البخيت ويوسف غوانمة وغيرهم) الذين تأسست معهم أقسام التاريخ في الجامعات الأردنية (الجامعة الأردنية واليرموك ومؤتة وغيرها). وبالمقارنة مع غيره، لفت عوض الأنظار مبكرا إليه مع رسالته للماجستير "الإدارة العثمانية في ولاية سورية "، التي نشرت في القاهرة عام 1969، ولذلك انتقل للعمل فورا في الجامعات السعودية، وذلك بعد إتمام مناقشة رسالته للدكتوراه عن "متصرفية القدس 1874-1914" في جامعة عين شمس المصرية عام 1970. وفي 1977 التحق بجامعة اليرموك ليكون من مؤسسي قسم التاريخ فيها، الذي تميز خلال الثمانينيات بنخبة من المؤرخين من الشرق الأوسط (خليل ساحلي أوغلو ولطفي عبد الوهاب ودرويش النخيلي وسيار الجميل وغيرهم).
ومع أن عوض وسّع اهتماماته البحثية لتشمل الخليج العربي بحكم عمله هناك، إلا أن فلسطين بقيت تستأثر باهتمامه في الأبحاث والأوراق، التي شارك بها في الندوات والمؤتمرات الدولية، فنشر عام 1983 "مقدمة في تاريخ فلسطين الحديث"، وتناولها في مؤلفاته الأخرى، مثل "بحوث في تاريخ العرب الحديث" و"الاتجاهات السياسية في بلاد الشام". ومع ذلك كان من المفاجىء أن تقوم "دار ورد" الأردنية بنشر رسالته للدكتوراه بعد حوالى 45 سنة على إنجازها. وربما يبرّر للدار هنا ما يقوله زميله عدنان البخيت: "إن رسالة الدكتوراه تبقى هي الإنجاز الأفضل"، ولذلك سعى خلال رئاسته جامعة مؤتة إلى نشر رسائل الدكتوراه لأعضاء هيئة التدريس، على الرغم من مرور سنوات على مناقشتها.
في ما يتعلق بـ"متصرفية القدس"، تجدر الإشارة إلى أن الحدود الإدارية لبلاد الشام خلال الحكم العثماني عرفت تغيرات متواصلة، قبل أن يستقر الوضع في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. فقد شكلت إسطنبول ولاية واحدة تضم كل بلاد الشام، وبعد عدة عقود تشكلت أربعة ولايات (دمشق وحلب وطرابلس وصيدا، التي كانت تضم جنوب لبنان وفلسطين) وبقي الوضع عرضة للتعديلات إلى أن جاء الحكم المصري 1831-1840، وبعد عودة الحكم العثماني تشكلت ثلاث ولايات: ولاية دمشق، التي كانت تضم شرق الأردن، وولاية حلب، التي امتدت في الأناضول، وولاية صيدا/ ولاية بيروت منذ 1888 التي شملت فلسطين، بالإضافة إلى متصرفية جبل لبنان عام 1861 ومتصرفية القدس، التي فصلت عن ولاية صيدا لتصبح مرتبطة مباشرة بإسطنبول.
ويلاحظ هنا أن حدود هذا الكيان الإداري الجديد شملت أقضية القدس ويافا الخليل وغزة وبئر السبع، بينما بقي لواء نابلس فقط ضمن ولاية صيدا / بيروت لاحقا، الذي عكس تشكيله حرص الباب العالي على وضعه تحت رقابته المباشرة مع تزايد الاهتمام الإنجليزي والاستيطان الصهيوني الجديد في فلسطين. وفي هذا السياق ظهرت في القدس، كما في مراكز الولايات المجاورة، الجريدة الرسمية "القدس" باللغتين العربية والتركية عام 1876. ومع أن هذا الكيان الجديد، الذي كان يضمّ معظم فلسطين الحالية، بقي يسمى رسميا "متصرفية القدس"، إلا أنه أخذ يبرز في الخرائط العثمانية تحت اسم فلسطين، وذلك مع تصاعد الاهتمام الأوروبي وبروز المشروع الصهيوني، الذي أثار بدوره الحراك الوطني الفلسطيني الحديث الذي عكسته الصحافة الفلسطينية الجديدة (الكرمل، فلسطين وغيرها).
وبالعودة إلى كتاب عوض، يحرص المؤلف أولا على توضيح الظروف التي سبقت تشكيل "متصرفية القدس" في 1874، ثم استعراض "أجهزة الحكم والإدارة" في الفصل الأول، ثم يتناول "التطور الاجتماعي والاقتصادي في مدن المتصرفية" في الفصل الثاني، و"التطور الاجتماعي والاقتصادي في الريف" في الفصل الثالث، وصولا إلى أهم متغيّر خلال حكم السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909: الهجرات اليهودية، التي أخذت تغيّر في الطابع الديمغرافي حتى "أصبحت القدس المدينة الوحيدة في المتصرفية، التي لم يشكل المسلمون أكثرية سكانية فيها"، بحسب الإحصاءات في تلك الفترة، وهو ما أدى بدوره إلى بروز الوعي الوطني الفلسطيني الحديث، الذي كان ينتقد أحيانا الصمت أو التجاهل العربي له. ومع أن المؤلف يعترف بأن عدد اليهود في فلسطين تضاعف حوالى ثلاث مرات خلال حكم السلطان عبد الحميد (ص 286)، إلا أنه ينتهي إلى حكم قاطع يفيد بأن "السلطان ظلّ طيلة حكمه عقبة كأداء في وجه المشاريع اليهودية، وبخاصة الصهيونية منها في فلسطين.. ويبدو أن الشكوك التي ساورت السلطان في شأن النوايا الصهيونية كانت قوية جدا، وأدت لأن يرفض السلطان جميع إغراءات الصهيونيين المالية" (ص 304-305)، وهو الشي الذي تعارضه تماما تلميذته، فدوى نصيرات، في كتابها "دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876-1909" (بيروت 2014).
وفي الحقيقة أن الفصل السابع والأخير، "الاستيطان اليهودي"، هو الأهم في وقته، وخاصة في ما يتعلق بالوعي الفلسطيني المبكر للمشروع الصهيوني، والاختراق الصهيوني للمشروع العربي وصولاً إلى مؤتمر باريس 1913 (المؤتمر العربي الأول)، حيث أنه اعتمد على الأرشيف العثماني والمذكرات والدراسات الحديثة الصادرة حتى 1969، وكان يمكن أن يبقى كذلك لو أن الكتاب نشر في 1970. ولكن عدم نشر رسالة الدكتوراه في وقتها فسح المجال لباحثين آخرين لأن يكتبوا ويتوسعوا في ذلك، مثل زميلته في جامعة دمشق، خيرية قاسمية، التي نشرت عام 1973 كتابها "النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه" وبيان نويهض الحوت التي تناولت هذا الموضوع في الفصل الثالث من كتابها "فلسطين القضية - الشعب-الحضارة" (بيروت 1991)، وترجم الياس شوفاني كتاب يوسف لمدان "العرب والصهيونية 1882-1914" (دمشق 2009) وغيره.
وأخيرا لا بد من ملاحظة نقدية أخرى للناشر تتعلق هذه المرة بغلاف الكتاب، فقد كان من المفترض أن يكون الغلاف منسجماً مع موضوعه، أي عن فلسطين خلال 1874-1914، ومع اختياره الجامع الأقصى للغلاف كان يمكنه أن يختار واحدة من عشرات الصور عن الأقصى من تلك الفترة، التي نشرت في أكثر من كتاب من قبل مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في إسطنبول "ارسيكا"، ولكن الناشر شاء أن يختار صورة حديثة للأقصى مع خلفية إسرائيلية مسيطرة على الآفاق.
(أكاديمي كوسوفي/ سوري)
اقرأ أيضا
صور نادرة تحكي تاريخ القدس