ما لا تعرفونه عن انتحار آمنة إسماعيل

06 سبتمبر 2014
شرفة بيت آمنة في بيروت (العربي الجديد)
+ الخط -
يُجمع سُكّان بيروت على أهميّة الشرفة أو"البرندا"، وعلى أنّها جزء أساسيّ من المنزل. رُغم صغر مساحة المدينة، تبقى الشرفة فسحةً تُتيح مجالاً مفتوحاً للنظر وفرصة بسيطةً للتمتع بنسمة هواء في محيط مزدحم وسريع الإيقاع.
يعود أصل كلمة "برندا" إلى "فرندا": الكلمة الإيطالية التي تحمل في طيّاتها المعنى نفسه: طاولةٌ صغيرة وكُرسيّان ودرابزين. هكذا تتشابه الشرفات وتختلفُ المُدن. 

تجمعني بالبرندا علاقةٌ وثيقة. أجد نفسي مرتاحة بجلوسي على كرسيّ قديم، بعيداً من أشعّة الشمس، أراقب المباني المحيطة وأصغي إلى الموسيقى، أو أقرأ كتاباً متجاهلةً ضجيج الخارج.
لا تُزعجني زحمة العمران، رغم أنّ مباني الرملة البيضاء الجديدة سرقت متعة تأمُّل البحر الجميل، وسرقت ذكريات طفولتنا في زواريب المنطقة البرجوازية. نعم، في المناطق البرجوازية المظهر زواريب أيضاً، وحكايات طفولةٍ ومراهقةٍ وعائلات متوسّطة الحال ماديًّا استقرّت في الرملة البيضاء منذ الثمانينيّات، خلال الحرب الأهلية اللبنانية. 
يميناً ويساراً ترى مبانيَ شاهقة ترتفع، شققٌ باهظة الثمن تغمر المنطقة التي أوَتْ طفولتي بحلوها ومُرّها. على ذلك الكرسيّ جلستُ تارةً أُراقب مغيب الشمس وشروقها، وطورًا أستمتع بزحمة بيروت وعشاء الجيران. بعدستي، ومن شُرفتي، وثّقت تنظيف العاملات الأجنبيات زُجاج منازل الطبقات 12 و13. وبعينيّ اختلست النظر إلى موائد العشاء العائلية، وراقبتُ جارة تُنزّه كلبها، وأطفالاً يلهون وسط الشارع، غير آبهين بتزاحم السيارات.
تعود بي الذاكرة إلى شهر يوليو/تموز 2013، يوم تعرّفت إلى آمنة إسماعيل التي لم تكن قد بلغت في حينها الثلاثين من عمرها. دخلت آمنة شقتها الجديدة برفقة زوجها كفاح أحمد في الرملة البيضاء، ولم تعرف حينها أنّها لن تخرج من بابها على قيد الحياة.  

انتحرت آمنة من شرفتها المطلّة على البحر. جلست على الحافة، ودّعت زوجها الذي لسببٍ مجهول وثّق انتحارها بكاميرا هاتفه المحمول، وقفزت آمنة. ماتت آمنة بصمت. انتحرت ليل السبت، ولم نسمع بانتحارها حتّى مساء الإثنين التالي. كنتُ على البرندا، أشرب قهوة كالعادة حين وصلني فيديو على "واتساب"، وطلب منّي صديقي مشاهدة المزحة "الثقيلة" التي أجراها بعض "الأصدقاء". شاهدتُ الفيديو سبع مرات، انتظرتُ أن تعود آمنة وأن تكون قد هبطت على حافة ما دون أن تتأذّى. توقّعت أن تُدار الكاميرا وأن يظهر وجه المصوّر ويعتذر للمشاهد عن المشهد المؤلم. فطال انتظاري حتّى أدركتُ أنّني شاهدت للتوّ لحظات آمنة الأخيرة.. 
تركتُ شرفتي، هرعتُ إلى المبنى ووقفت حيث انتحرت آمنة. سألتُ الجيران، ومن تواجد ليلتها عمّا حصل. وثّقت الأحاديث على هاتفي. قادتني قدماي نحو سطح منزلي، جلست وبيدي الكاميرا، ثبتثُ العدسة، ودخلتُ شقة آمنة وكفاح.
الغبار يملأ المكان في المنزل الذي لا نهاية لفوضاه. لا أضواء في داخله حتّى أشعلها. لا زجاج يُغطي درابزين الشرفة، وهذا ما سهّل انتحار آمنة. تجوّلتُ في الشقة. بحثتُ عنها، عطرها يملأ المكان. آثار "سكربينة" آمنة لا تزال ظاهرة على الأرض المغبّرة التي تنتظر إعادة تصميم شقّة العروسين.
آمنة انتحرت، زوجها وثّق الحادثة، انتشر الفيديو لسبب مجهول وأرسله أحدهم إليّ. أنا امتعضْتُ، أخذني الذعر بين يديه اللامباليتين، لأنّ قتل آمنة نفسها أتى رخيصاً، ولأنّ أحداً لم يُحرّك ساكناً، فنشرتُ قصّتها بدوري، تعاطفتُ مع انتحارها وأغضبني وجود دليلٍ يُؤكّد موتها دون أن يُحرّك أحدٌ ساكناً، والأهمّ: أغضبني انتشار الفيديو على أنّه مزحة ثقيلة.
غضبٌ استفحل بين جيرانٍ عرفتهم منذ طفولتي. أصبحتُ غريبةً في منطقةٍ ترعرعتُ فيها. أنا الصحافية التي انتهكت خصوصيات الانتحار. الصحافية التي دفعها انتحار غريبةٍ إلى التحقيق والغوص في تفاصيل رفضت العائلة أن تُعطيها، حتّى وإن أتى موت آمنة رخيصاً: مُجتمعنا لا يزال يخشى الحقيقة. مجتمعنا لا يُناقش فكرة الانتحار وأسبابها، مُجتمعٌ يخشى كلام الناس والفضيحة ويُغفل أنّ الانتحار فعلٌ يتطلّب جُرأةً كبيرة ومُحفّزاً قد يكون خطيراً.
مرّت سنةٌ كاملة، وأنا أنتظر عودة آمنة. لكنّها لن تعود. يوم انتحارها أمعنتُ النظر إلى المبنى الذي بُثّت صورته في الفيديو. إنّه المبنى نفسه الملاصق للشارع حيث أسكن. آمنة كانت جارتي التي لمحتها مرّتين قبل انتحارها، وأُعجبتُ بشعرها الأسود الطويل. جارتي، التي جلست على شرفتها كما جلستُ على شرفتي، لكن هي انتحرت وأنا أكملتُ قراءة رواية "أنا الضحية والجلاّد أنا"، مستمتعةً بغروب شمسٍ أختلس مشاهدتها من بين مباني الرملة البيضاء الحديثة البرجوازية التي لا تُشبهني في شيء.

المساهمون