ما بين الكتابة وصكّ الاعتراف

05 نوفمبر 2015
ما بين الكتابة وصكّ الاعتراف (الفيسبوك)
+ الخط -
لطالما كانت وما زالت هناك أسئلةً تخصّني ككاتب، وصلَ بي المطاف بأن أسمّيها "الأسئلة المزعجة"، كأن أتساءل دومًا؛ أين أنا من هذا الانفجار الكونيّ الذي يسمّى "الكتابة"؟ إنه سؤال بالغ التعقيد، بالنسبة لي على الأقل، من الصعب اليوم أن تكتب ما تريد، وما ترغب بالكتابة عنه، هناك عوائق قد تتسرب إلى اللاوعي عندك، وتفرض نفسها، من دون أن تدري، إذ إن لكل عصر، ولكل زمن، أفكارا، وأساليب، وأنواعا، ومناهج للكتابة، وأحيانًا لا تكون سوى موضة من موضات العصر، فتشعر لوهلة أن ما ترغب في البوح به عبر الكتابة، قد لا يناسب الذوق العام، أو قد يراه بعضهم لا يعبّر عن اللحظة الراهنة. بالذات حين تكون في زمن يحدث فيه تغيّرات كثيرة، مثل ما يحدث الآن؛ ثورات، حروب، أفكار تموت، وأفكار تحيا، كتّاب ومثقفون ينطفئ نجمهم، وآخرون يسطع نجمهم.


مع بداية الثورة السورية، دخلت في حالة طويلة من التخبط، وطوال الوقت أسأل نفسي: ما هو دوري في هذه الثورة؟ ماذا يمكنني أن أقدّم؟

ذات يوم التقيت مصادفةً بصديق صديقي، في المركز الثقافي الفرنسي، وهو ناشط، وصحافي، وشاعر كان قد مضى أسبوع على خروجه من المعتقل. ما إن رأيته حتى برقت عيناي من الفرح، وتوجهت إليه لأهنئه بخروجه بالسلامة، وأخذت رقم هاتفه، لنتفق على موعد، ونلتقي.

بعد عدة أيام، التقينا في أحد مقاهي باب شرقي، جلسنا نتحدث عن الثورة، وقمع النظام، والأدب، والشعر. وقلت له إن صديقنا المشترك كان يتمنى أن نلتقي منذ زمن، حتى قبل الثورة، لنقرأ لبعضنا الشعر، ولنتبادل الآراء فيما نكتب، فسألني: هل معك شيء من كتاباتك؟ قلت: بالطبع.. وأخرجت هاتفي، الذي حفظت ضمن ملاحظاته بعضًا من نصوصي، وقرأت له نصًا، فقال لي إنه قريب من شعر "الهايكو" الياباني.

بعد لحظات سألني السؤال الذي كنت أخشاه: هل شاركت في المظاهرات؟ تسارعت دقات قلبي، واحمرّ وجهي، وبدأت أتعرّق بشدة، وقلت له: للأمانة إلى الآن لم أشارك حتى في مظاهرة واحدة، ما زلت خائفًا يا صديقي، خائفًا من الاعتقال، خائفًا من الرصاص الحيّ. 
مدَّ الصديق يده نحوي، و"طبطب" على كتفي، وقال لي: عليَّ الذهاب الآن. قلت له: لم يمض على جلستنا ربع ساعة! فأجاب بأنه مشغول وعنده موعد مهم، ويجب عليه الذهاب فورًا.

فوجدت نفسي وحيداً مع نصوصي، التي وجِّهَ لها اتهام مباشر بأنها قد تكون تقليدًا لقصائد الهايكو، إضافة إلى كوني شخصًا جبانًا!

زادَ هذا اللّقاء من تخبطي الداخلي، فدفعني إلى الخروج في بعض المظاهرات سرًا، من دون عِلم أهلي، وكنت أغطي وجهي بوشاح ظل يرافقني دومًا بعدها، لكي لا يلتقط لي المخبرون "المندسون" داخل كل مظاهرة تخرج أية صورة. ولكي أكون أكثر حذرًا اشتريت عدة أوشحة بألوان مختلفة، لكي لا يحفظوا لون الوشاح! لكن هذا التخبط ليس له علاقة بالخروج في المظاهرات فقط، بل له علاقة بجذر مشكلتي الأساسية، كيف أعبر عن نفسي من خلال الكتابة؟ ماذا أكتب على "حائطي الفيسبوكي" لأثبت لأصدقائي "الكتّاب، والصحافيين، والمثقفين"، بأني لستُ مثقفًا نخبويًا، وبأن موقفي واضح من الثورة، وبأني ضدّ النظام منذ الأزل؟!

هل أشتم النظام؟ هل أكتب "نموت ويبقى الوطن"؟ هل أكتب عبارة سمير قصير "عودوا إلى الشارع، تعودوا للوضوح"؟!، هل أشتم بعض المثقفين "الكبار" وأنتقدهم لأنهم لم يتخذوا موقفًا واضحًا من الحراك؟

هذا المخاض أثّرَ، بشكل كبير، على فعل الكتابة عندي، وجدواها. واكتشفت أني لا أستطيع أن أكون "كاتب موقف" بشكله المباشر الآني، أو "كاتبا أحصر نفسي في كتابة آرائي السياسة والثورية فقط"، إذ إن مواقفي وآرائي السياسية أقولها علانية في حياتي اليومية وأمام الجميع، في الشارع، وأمام زملائي في العمل، وأمام أصدقائي، وفي المقهى، وفي حالة الصحو، وفي حالة السكر أيضًا.

أحيانًا قد تكون خيارات المرء في زمن ما، غير قادرة على نزع صكّ اعتراف من جميع من حوله بوجوده - بعيداً عن المظلومية - وليست ضرورةً حتى. لكن مادامت "الكتابة"، سؤالًا قائمًا، وصارمًا، ويعبّر بشكلٍ حُرّ عن الذات الفردية للإنسان، هذه الذات هي التي تراكم، وتعبّر عن الهمّ الجمعي، أو تعكس جزءًا من تشكّله، وتكوينه، وتحولاته.

(سورية)
المساهمون