ما بعد غزّة 2014.. أسئلة مشروعة

04 سبتمبر 2014

غزّة بعثت روح المقاومة في الأمة (27أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

أسئلة عديدة بشأن ما جرى في غزة ستبقى مطروحة، وإجاباتها ستبقى معلقة، ربما فتراتٍ طويلة. ولا أعني، هنا، ما جرى في أثناء ملحمة الواحد وخمسين يوماً فقط، ولكن، ما سبق الثامن من يوليو/تموز 2014، وما أعقب السابعة مساء من يوم السادس والعشرين من أغسطس/آب 2014، والتي بدأ فيها سريان وقف إطلاق النار بين الطرفين، إسرائيل والمقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس! ولتكن البداية من الأجواء التي سبقت العدوان، وهل كانت تداعيات منطقية للأحداث وغير مخططة، أم أنها كانت ترتيبات تم التخطيط لها بدقة؟

علينا أن نستعيد المشهد بكل تفاصيله، لأنه جديد، وربما لا مبالغة في القول إنه مشهد غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فكيف بدأ هذا المشهد الذي أطلق عليه العدو الإسرائيلي اسم الجرف الصامد، وأطلقت عليه "حماس" اسم العصف المأكول، بينما اختارت حركة الجهاد الإسلامي اسم البنيان المرصوص، أي أن الجميع قد أعدوا أنفسهم لمعركة ذات طبيعة مختلفة؟ بدأت الأحداث في 12 يونيو/حزيران 2014 باختفاء ثلاثة مستوطنين يهود في مدينة الخليل، وفشلت كل الجهود المبذولة للعثور عليهم، سواء من أجهزة العدو الإسرائيلي، أو من أجهزة سلطة رام الله الفلسطينية. وفي الثلاثين من يونيو/حزيران، تم العثور على جثثهم مقتولين في منطقة حلحول، وهنا ثارت ثائرة العدو والمستوطنين والذين خطفوا يوم الثاني من يوليو/تموز الفتى الفلسطيني المقدسي، محمد أبو خضيرة، وحرقه حياً، وقتل سائق إسرائيلي بقتل مواطنين عرب دهساً بسيارته في حيفا في اليوم نفسه. وشنت إسرائيل حملة اعتقالات واسعة في الضفة الغربية، شملت الأسرى المفرج عنهم في صفقة الجندي جلعاد شاليط، على الرغم من مخالفة ذلك للاتفاق. وفي الوقت نفسه، أعلنت اتهامها حركة حماس بالمسؤولية عن قتل المستوطنين الثلاثة، وأنها قررت عقابها. وبدأت شن غارات متقطعة على غزة، وردّت المقاومة بإطلاق قذائف صاروخية وقذائف هاون على مستوطناتٍ في محيط القطاع، ثم جاء التصعيد الإسرائيلي في يوم 7 يوليو/تموز، عندما اشتد القصف، وسقط ستة شهداء من رجال المقاومة شرق رفح. وفي 8 يوليو، أعلنت إسرائيل بدء عمليتها العسكرية الشاملة ضد قطاع غزة، وقرّرت استدعاء ٤٠ ألف من جنود الاحتياط، مرحلة أولى، ارتفع العدد، بعد ذلك إلى 82 ألف، لتبدأ واحدة من أسوأ جرائم الحرب في القرن الحادي والعشرين ضد شعب أعزل محاصر، يرتكبها جيش فائق القوة والتطور ومصنف رابع قوة عسكرية في العالم!

هنا السؤال الأول: هل خططت حماس، ومعها باقي منظمات المقاومة في غزة لاستدراج إسرائيل إلى فخ غزة الذي كان قد سبق إعداده، أم أن العدو الإسرائيلي هو من استغل حادثة خطف المستوطنين الثلاثة، ثم قتلهم لإثارة مشاعر المستوطنين، ودفعهم لارتكاب جرائم فردية بشعة، وتهيئة الرأي العام الإسرائيلي لبدء العدوان على غزة، بهدف ضرب حماس وكسر المقاومة، والذي كان مخططاً. ثم يأتي سؤالٌ أكثر خطورة وأهمية: هل كان هدف ضرب المقاومة، وخصوصاً حماس وإنهاء وجودها أو دورها على أقل تقدير، وتطويع غزة هدفاً تم تنسيقه مع أطراف عربية ودولية، منها مصر. لا أعتقد أن هناك، غير الأطراف المعنية نفسها، من يملك إجابات قاطعة على تلك الأسئلة، والأطراف المعنية قطعاً لن تقدم في المستقبل القريب تلك الإجابات القاطعة.

وبشأن الملحمة ذاتها، تبقى أسئلة مطروحة شديدة الأهمية، الأول: كيف تمكنت حماس وباقي حركات المقاومة في داخل قطاع غزة من بناء منظومة صواريخ أرض- أرض تكتيكية متعددة المديات، بحيث تطال كل جزء في أراضي فلسطين التاريخية، سواء في محيط قطاع غزة، أو في آخر عمق فلسطين المحتلة بالنسبة لغزة، أي بمديات تقترب من 180-200 كم، وتنسيقها مع مقذوفات الهاون ذات المديات القصيرة من 3 كم وحتى 8-10كم. والأهم في المنظومة أسلوب القيادة والسيطرة المركزية عليها، والتنسيق الدقيق فيما يتعلق بالتوقيتات والأهداف والعناصر القائمة بالتنفيذ، وهي عملية تقنية احترافية معقدة، (ولسنا، هنا، في مجال البحث في القدرات التدميرية، أو الدقة المتناهية لصواريخ المنظومة، لأنه أمر قابل للتطوير السريع)، وذلك كله في ظل حصار خانق من جميع الاتجاهات، على مدى نحو ثماني سنوات. بالطبع، ستبقى الإجابة معلقة زمناً طويلاً.

السؤال الثاني، يتعلق بنظام التجهيزات الهندسية التي تتضمن عشرات الأنفاق المحصنة على أعماق مختلفة، مؤدية إلى مواقع العدو، ومستوطناته في محيط غزة، والانطلاق في العمق، وقواعد الإطلاق للصواريخ ومراكز التصنيع والصيانة وقواعد الانطلاق لمجموعات القتال. وهذه أمور تبقى إجاباتها، أيضاً، معلقة. وتبقى، أيضاً، أسئلة عديدة بشأن فرق "المقاتلين الفدائيين"، وهم من يطلق عليهم في الجيوش القوات الخاصة. وهي التي تصدت للاجتياح البري للعدو، وكبّدته خسائر فادحة، وقامت بعمليات نوعية داخل الأراضي المحتلة برية وبحرية على مستوى رفيع، وأسئلة حول وحدة القيادة والسيطرة على العمليات العسكرية المختلفة مع تعدد الحركات المشاركة، والقدرة على الاستمرار واستعواض الصواريخ والذخائر، والإمداد والإخلاء، وغير ذلك من أمور عملياتية ولوجستية كثيرة، تبقى مطروحة، وتبقى الإجابات معلقة.

جانب آخر، وهو سؤال له حساسية خاصة، لأنه بشأن استمرار بقايا الاختراق الأمني، وعلى مستوى خطير، حيث أدى إلى استهداف أسرة القائد العام لكتائب عز الدين لقسام، محمد الضيف، وقد نجا واستشهدت زوجته واثنان من أطفاله، كما تم استشهاد ثلاثة من أبرز القادة العسكريين لكتائب القسام في رفح في الأيام الاخيرة للقتال. سؤال يستحق وقفة عميقةً وإجابةً حاسمة، فلم يعد هناك مجال لمثل هذه الاختراقات في مستقبل الأيام.

والسؤال الأخير، والذي حيّر أطرافاً عديدة، هو كيف حدث هذا التلاحم غير المسبوق بين أهل غزة ومقاومتها، وكيف صمد هذا الشعب، على الرغم من جرائم حربٍ ارتكبها العدو ضد المدنيين، فسقط آلاف الشهداء والجرحى، أطفال ونساء ومسنون وحتى معاقون، وتدمير كل مظاهر الحياة والتعمير في القطاع. وبقي الشعب صامداً، بل هو من يطالب مقاومته بالاستمرار حتى تحقيق مطالبه.

ماذا بعد غزة 2014؟ قطعاً أمور كثيرة ستتغير، ليس فقط في غزة. ولكن، نحن أمام مفترق طرق حقيقي للقضية الفلسطينية، لم تشهده مذ 66 عاماً بعد التغيير النوعي الذي فرضته المقاومة على معادلة القضية. لن يقف التغيير عند حدود القضية الفلسطينية، بطرفيها الرئيسيين، الفلسطينيين مقاومة وسلطة، والعدو الإسرائيلي حكومة وقوى سياسية. ولكن، سيمتد إلى أطراف إقليمية عديدة، خصوصاً الدول التي انطلقت فيها ثورات الربيع العربي، والتي تعاني من هجمات شرسة لقوى الثورة المضادة، وحققت نجاحاً في بعض الدول. ولا زالت تسعى إلى إحباط كل ثورات الربيع العربي. كلمة السر لما بعد غزة، بجملة واحدة. نصر غزة بعث روح المقاومة في كل الأمة.

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.