الأصابع النحيلة المشوهة ترتفع لتغطّي الفم، العيون تحدّق فينا مستنجدة، بوح مكتوم يأخذ شكل وصية تُرسم، فوق جسدٍ هزيل متشنّج، عبارة "لا تقتل". إنها وصية التشكيلي الكردي السوري عمر حمدي "مالفا"، الذي غادرنا قبل أيام، لإخوته في وطنه الأم.
عُرض هذ العمل ضمن مجموعة كبيرة في "غاليري ميرك" في أربيل عام 2013، وكان بمثابة تسليط الضوء على معاناة المعتقل في أقبية السجون.
قد لا يمهّد هذا العمل للتعريف بعالم عمر حمدي التشكيلي، فتجربة الفنان، الممتدّة لأكثر من أربعين عاماً، غير قابلة للتصنيف. براعته في رسم الجسد المشحون بتعبيرية مرهفة وعنيفة في آن، تقابلها مهارة في تأليف تكوينات تجريدية تستمد مرجعيتها البصرية من ألوان ومفردات الطبيعة، ولا سيما الشمال السوري، مسقط رأسه.
ولد مالفا (1952 - 2015) في بيت طيني متواضع في قرية كردية في مدينة الحسكة. في تلك البيئة الفقيرة، بدأ يترجم ميله إلى الفن راسماً وجوه أبناء القرية على ورق أكياس السكر مستخدماً فرشاة الحلاقة. لم يؤمن أحد بموهبته، بل كان عليه أن يخبّئ رسوماته في بئر البيت كي لا يراها والده الذي عارض رغبة الشاب في امتهان الرسم.
يسافر حمدي إلى دمشق التي حرق فيها أعمال معرضه الأول، ولا يبدو عبثاً أن الفنان قد اختار تلك النهاية الاستعراضية لباكورة أعماله وكأنه يريد أن يحرق ذاكرته، ويعلن بداية جديدة. لكن دمشق لم تكن ملاذاً للفنان، إذ سيهرب منها أثناء خدمته العسكرية ويسافر إلى بيروت، فقبرص، ثم فيينا حيث استقر حتى وفاته.
انتشرت لوحات مالفا في صالات عرض مهمة من بينها "فندلي" في نيويورك و"بالم بيج" في باريس و"فرانكلين شتاين" في برلين و"أرت فورم للفن المعاصر" في فيينا. كان حمدي يُمضي أعماله بـ"مالفا"، الاسم الذي اختاره الفنان لتوقيع أعماله، وهو اسم وردة الختمية الذي أطلقه على مجموعة أعماله الأولى التي رماها في بئر منزل العائلة تحاشياً لغضب الأب.
يتنقل مالفا ما بين التجريدية والانطباعية والتعبيرية من دون التعصب لاتجاه بعينه. كما كان يزاوج ما بين التشخيصي والتجريدي في آن معاً، غير مبال بتلك التصنيفات المدرسية الجامدة. يصف الفنان علاقته باللون في إحدى المقابلات:
"كل شيء هو لون. يولد مع فتحة العين، وينتهي في المكان الذي ولدت فيه، كانت الفراغات اللونية كبيرة، تتحرّك مع غبارها رقع لون صغيرة من ثياب وسجاد ولحف، وكأنها إيحاءات لصدى قديم، نخشى غيابها".
اقرأ أيضاً: برهان كركوتلي.. حكواتي الثورة ورسامها