"مات الفنان جراء سكتة قلبية وهو في طريقه لحضور معرض ضمّ إحدى لوحاته"؛ قد تبدو هذه الجملة خارجة من فيلم أو رواية تحاول اقتناص مشهد درامي، إلا أن هذا ما حدث في العام 1950 في نيويورك للفنان الألماني ماكس بيكمان (1884-1950).
ثيمة موته هذا وسنوات حياته القصيرة نسبياً في الولايات المتحدة، حيث انتقل للعيش فيها عام 1947، هي موضوع لمعرض يضمّ 39 عملاً من أعماله؛ من بينها 25 لوحة أنتجها بفترات مختلفة من حياته، لكن المشترك بينها أنها بحوزة متاحف وجامعي فن نيويوركيَّين، و14 لوحة أنجزها بعد انتقاله إلى نيويورك عام 1949.
كما يشتمل معرض "ماكس بيكمان في نيويورك"، الذي يختتم اليوم، على اللوحة المعنونة باسم "بورتريه ذاتي بجاكيت أزرق"، والتي كان بيكمان في طريقه لرؤيتها معروضة في "متحف المتروبوليتان" عندما باغته الموت في الطريق.
يعدّ بيكمان، من قبل العديد من النقاد، واحداً من أهم الفنانين الألمان الذين عاشوا ما بين الحربين العالميتين وأكثرهم تأثيراً. عرف، في عشرينيات القرن الماضي، في ألمانيا نجاحات لافتة، حيث تنافس أهم جامعي اللوحات في ألمانيا والمعارض على اقتناء وعرض أعماله. كما درّس بيكمان في "مدرسة شتايدل للفن" في مدينة فرانكفورت.
لكن سرعان ما انقلبت تلك النجاحات ضده، إذ بدأت المضايقات والتحريض من قِبل الإعلام النازي تلاحقه مطلع الثلاثينيات حتى وصلت حدّتها عام 1937 بأن صودر أكثر من 500 عمل له من المتاحف والغاليريهات ومُنعت من التداول، واعتبر "فناناً منحطاً" كما غيره من الفنانين الذين لاحقتهم النازية آنذاك.
في اليوم الذي صودرت فيه أعماله، أدرك أن عليه الهروب، فترك ألمانيا مع زوجته متجها إلى بلدان أوروبية، من بينها فرنسا وهولندا، التي عاش فيها قرابة عشر سنوات قبل الانتقال للولايات المتحدة.
"الفن المنحط" (Entartete Kunst)، تسمية أطلقتها الدعاية النازية على التيارات الثقافية والفنية التي لم تلتزم بمعايير الفن النازي "النقي" والمباشر والتعبوي والمسخّر لخدمة الحزب والزعيم والأيديولوجيا.
واستخدم هذا المصطلح، المأخوذ من مجال العلوم الطبيعة والنظريات العنصرية حول "النقاء العرقي"، في القرن التاسع عشر، لوصف تيارات فنية مثل التعبيرية، التي انتمى إليها بيكمان في فترة ما، والدادائية والتكعيبية والسوريالية وغيرها من تيارات الفن الحديث التي رأى النازيون أنها تُفسد الفن الألماني "الحقيقي".
قام النازيون بمصادرة وإتلاف آلاف الأعمال التي صنّفت تحت هذا الاسم، ناهيك عن حرق الكتب وملاحقة السينمائيين والأساتذة وغيرهم. وقد أقيم معرض في مدينة ميونخ عام 1937 احتوى على 600 لوحة وعمل فني من "الفن المنحط" للسخرية منه باعتباره الفن الذي لا يجب أن يكون عليه "الفن الألماني الحقيقي والنقي"، وتجوّل هذا المعرض في مدن ألمانية عديدة وحضره آنذاك نحو مليوني شخص، وكان لبيكمان نصيب في ذلك المعرض بأكثر من لوحة، إلى جانب أعمال بيكاسو وشاغال وفان كوخ وماتيس وغيرهم كثر.
يجمع المعرض النيويوركي ثيمات عديدة؛ من بينها بورتريهات بيكمان الذاتية، وبورتريهات متعدّدة لآخرين، بمن فيهم زوجته، ولوحات بأسلوب "الطبيعة الصامتة". من خلال البورتريهات الذاتية التي رسمها بيكمان، وعلى مدار عقود من مسيرته، يتجلّى أسلوبه الساخر والمسرحي، كما تظهر التغييرات على ذلك الأسلوب بشكل جلي عند مقارنتها ببعضها البعض، حيث احتوى المعرض على سبعة من تلك البورتريهات الذاتية، أقدمها حمل عنوان "بورتريه ذاتي مع سيجارة" ورسمه عام 1923، وآخرها "بورتريه ذاتي بالجاكيت الأزرق" ورسمه عام 1950.
في تلك الأوتوبورتريهات يظهر بيكمان براعة فنية وأسلوباً مسرحياً في تصوير ذاته، فيظهر تارة ببدلة أنيقة وسيجارة وملامح قاسية، وتارة بملابس بحارة وبقبعة تخفي ظلالها ملامح وجهه وتعابيره القاسية التي تغرق فيها بورتريهاته الأخرى.
ويرى بعض النقاد أن التغيير الذي حصل في أسلوبه، وخاصة خلال سنواته الأميركية على الرغم من قصرها، كان واضحاً، فقد أصبحت الألوان زاهية واحتل الضوء مساحة أكبر فيها، كما أصبحت ملامحه أقل قسوة، وخير دليل على ذلك لوحته بالجاكيت الأزرق.
اختلفت أساليب بيكمان ومواضيعه، لكن واحدة من الأساليب المثيرة والمستخدمة لديه كانت ما يُعرف تحت اسم مدارس رسم "الطبيعة الصامتة". ويختلف أسلوبه هناك عن أساليب المعلمين الهولنديين القدامى، بل يحاكي فيها معاصريه من الفنانين الذين جعلوها أكثر ديناميكية ورمزية وكسروا صمت الأشياء التي رسموها لتبدو أكثر ديناميكية مثل بيكاسو وغيره.
في "طبيعة صامتة: غرامفون وزنابق"، حشد بيكمان مجموعة من الأشياء التي ترمز للحياة، كالموسيقى، ممثّلة بالغراموفون، وزهوراً وكرسياً وجزءاً من أسطوانة موسيقية تكتظّ جميعها في الزاوية على الطاولة وحولها، لتعكس شعوراً بالاختناق والفوضى وتبعد الطمأنينة التي تبثّها في العادة تلك الزهور أو الغراموفون.
يرد هذا المعرض للفنان بعضاً من اعتباره، حيث يرى العديد من النقّاد الأميركان أن نيويورك ومتاحفها لم تُنصفه بعد مماته حيث لم يقم فيها، قبل هذا المعرض، إلا معرضين له. بيكمان الذي رفضت أميركا دخوله إليها عندما قدّم طلباً بذلك هارباً من النازية عام 1937، ولم تقبله إلا بعد عشر سنوات، وبقي خلالها مهدّداً من صعود النازية وتمدّدها داخل أوروبا، في عودته لـ"متحف المتروبوليتان"، الذي مات في الطريق إليه، تغلق دائرة في سيرة حياته ومماته.