16 نوفمبر 2024
ماكرون و"حزب" شبكات التواصل في فرنسا
حظيت الانتخابات الرئاسية الفرنسية، أخيراً، باهتمام يكاد يفوق مثيلتها الأميركية التي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ذلك أن فرنسا الأوروبية المتوسطية، ذات الماضي الاستعماري، هي ذاتها بلد الإشعاع الثقافي والثورة الفرنسية، والبلد العلماني والكاثوليكي الذي يضم جالياتٍ إفريقية وعربية ومسلمة تُعد بالملايين. وبينما تقتصر الحياة السياسية للأميركيين على حزبين كبيرين، هما بمنزلة مؤسستين عملاقتين لا تقبلان الانشقاق أو التغيير سوى في الوجوه، فإن فرنسا ما زالت بلد اليمين واليسار، وما زال للحزبية بعض الوهج في حياة الفرنسيين (66 مليون نسمة)، وإن كانت انتخابات الأسبوع الماضي قد شهدت على بداية ضمور للحزبية، وحيث يبدو الفائزان في الدورة الأولى باعتبار أحدهما، وهو إيمانويل ماكرون، نموذجاً لِـ "ما بعد" الحزبية، أما منافسته مارين لوبان، وجبهتها الوطنية، فهي على العكس مثال لـ"ما قبل" الحزبية. ولعل فوزهما معاً يعزّز صورة فرنسا الدائمة مختبراً للتجارب الفكرية والحزبية، ولحيوية المجتمع الذي ينزع إلى التجديد، ولو في اتجاهاتٍ متعاكسة.
ومع أن فرنسا بلد صناعي ومتقدم، إلا أنه، وفي ضوء الانتخابات أخيراً، يعكس تحولاتٍ، ويمثل اتجاهاتٍ ناشطة في عالمنا، بجنوبه وشماله، ويقظة الهويات الضيقة مثال على ذلك.
تقدم إيمانويل ماكرون (39 عاماً) بصفته نموذجاً لفئة الشباب العصري الناجح، الساعي إلى تجاوز مواضعات اليمين واليسار، مع الإفادة من تجارب هذين المعسكرين، وبينما نال منافسوه أصوات مناصري أحزاب قديمة وجديدة، فقد فاز هو على الأغلب بأصوات شرائح تمثل قيم عصر جديد، كما تتمرأى في وعي الفرنسيين (وغيرهم): النجاح الفردي، النأي عن الأدلجة، الابتعاد عن الانغلاق الوطني، التفاعل مع العالم ابتداءً من أوروبا، من دون الطموح إلى أدوار فرنسية كبيرة تنافس أميركا وروسيا، ومثاله في ذلك ألمانيا، وبدرجة أقل اليابان وكندا وأستراليا. ولهذا، لم ينشغل كثيراً بقضايا العالم، طارحاً مواقف وسطية أو رمادية، لا تقيده
بشيء في حال فوزه، فيما أبدى انشغالاً أكبر بالوضع الداخلي وبحياة شعبه. وهو في ذلك يواكب انشغالات المواطن العادي الذي يبحث عن الأمن ورغد العيش، بعيداً عن التخندقات الحزبية والأيديولوجية، وهذا هو حال النسبة الأكبر من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي، ومستخدمي التقنيات الحديثة بصفة دائمة، وعلى مدار الساعة، المفعمين بالمطامح الفردية، والممتلئين ثقةً بالنفس، ممن لا يرغبون بدفع أي ثمنٍ من أوقاتهم أو مداخيلهم، نتيجة أي تفاعل مع قضايا عامة ساخنة في الداخل والخارج، والأفضل أن لا تكون هناك قضايا ساخنة! وكما أن هناك حزباً يُدعى مجازياً حزب الكنبة، ممن يكتفون بمراقبة المجريات من بُعد، من دون أي انخراط فيها، بما في ذلك الانخراط في الانتخابات (بلغت نسبة الممتنعين عن التصويت نحو 22%)، فإن هناك حزباً آخر يمثله مرتادو شبكات التواصل من مختلف الأعمار، وخصوصاً الشباب منهم الذين يتفاعلون (إذا تفاعلوا..) افتراضياً مع القضايا، وينأون عن أي عمل جماعي، حزبي أو نقابي أو ديني أو عائلي أو سواه، وإذا لزم الأمر، بأقل مجهود فعلي ممكن. ولعل هؤلاء، وعددهم كبيرٌ، يصعب حصره، هم من رأوا في ماكرون النموذج الأقرب إلى تصوراتهم عن نمط الحياة العصري، وأنه تبعاً لذلك البديل عن الديغوليين والاشتراكيين (يمتلك ماكرون مع ذلك أفضل ما في الفريقين كما يرونه)، وعن الجبهة الوطنية المؤدلجة على طريقتها، والتي تُنذر بإثارة المشكلات، لا حلها.
هذا علماً أن مارين لوبان تطرح نفسها بديلاً عن اليمين واليسار أيضاً، وجبهتها لا تضم أحزاباً أو ما شاكل، بل تضم وطنيين متعصبين ضاقوا ذرعاً بغيرهم، وأثقلت عليهم التعدّدية الاجتماعية والثقافية، ويُمنّون النفس بفرنسا فرنسية خالصة، لا تبتعد عن الأفارقة والمسلمين فحسب، بل عن أوروبا أيضاً. فرنسا قائمة بذاتها ومكتفية بذاتها، وليست بحاجة لإقامة أواصر وثقى مع أحد (لم تنشغل بعضوية بلادها في حلف شمال الأطلسي!)، أواصر كتلك التي تشي بها العولمة، وهي خصم آخر للوبان، بينما الشخص العصري عند ماكرون هو العولمي،
فالسلع، مثل الأفكار مثل الإنترنت مثل بطاقة الصرف الإلكترونية، لا تقف أو يتعين أن لا تقف أمامها أي حدود. وثمّة درجة من الاعتمادية المتبادلة، تفيد منها حتى الدول الغنية، كالسياحة التي تفد من مختلف الدول إلى هذا البلد (فرنسا) وتثري اقتصاده. وتطرح لوبان نفسها راديكالية، تنشد تجاوز المؤسسة السياسية القائمة منذ جمهورية ديغول الخامسة، وتغازل الفقراء والمهمّشين، كما هو حال اليمين الشعبوي واليسار الشعبوي كذلك. ويتردّد أنها باتت تحظى ببعض الشعبية في صفوف شرائح من صغار العمال والضعفاء عموماً الذين يرون أن حياتهم لا تتحسّن مع حكم أهل اليمين أو الاشتراكيين، وربما أتت هذه السيدة الغاضبة بالترياق.
وقد راهنت لوبان على فوز ترامب في أميركا، وعلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تطورات تزكّي مواقفها، ولا شك أنها أفادت بعض إفادةٍ من هذه التطورات، إلى درجةٍ بات معها وجود جبهتها ليس أمراً نشازاً أو شاذاً، كما كان عليه الحال مع والدها، جان لوبان، الذي أزاحته عن قيادة الجبهة، وحلّت محله قبل نحو ست سنوات. ولعله الميل البشري البسيط يتقبّل، ولو على مضض، تطرّف سيدة شابة وجذابة (48 عاماً) في مقابل تطرّف رجلٍ في خريف العمر. هذا في وقت لم تحظ فيه مرشحة شابة أخرى، وهي المُدرّسة التروتسكية نتالي أرتو (42 عاماً) سوى بنسبةٍ رمزيةٍ تقل عن 1%. وعلى الرغم من روحها المفعمة بالتهذيب والغيرية والانتصار للعمال، إلا أنها تظل تبدو مرشحة فئوية ومفعمة بأيديولوجيةٍ لم تنجح في إقامة بلدان متطورة، أو إرساء نموذج يُحتذى في شرق أوروبا.
وعلى الرغم من أن النتائج ليست نهائية، بانتظار دورة الحسم في 7 مايو/ أيار، فإن التوقعات تلتقي حول ترجيح فوز ماكرون الذي استطاع استقطاب أصوات غالبية النخب الحزبية والسياسية إلى صفّه في الدورة الثانية المنتظرة، فضلاً عن التأييد من زعامات أوروبية، فيما لا تجد لوبان حلفاء سياسيين لها. ولن ينتهي الأمر عند إعلان الفائز، إذ سيحتاج الأخير إلى التفاهم مع البرلمان لتشكيل حكومة، يعود من خلالها اليمين واليسار للمشاركة في الحكم من خلال السلطة التنفيذية! وبذلك، يحق لماكرون المفاخرة بأنه قد اجترح جديداً أسمته الصحافة الفرنسية "الانفجار الكبير"، مع أن ما حدث أقل من ذلك بعض الشيء، فقد نجح الرجل بإنجاز التغيير. ولكن، مع الاستمرار الذي سيتمظهر في الأسابيع القليلة المقبلة، وسوف يتبدّى في السياسة الخارجية، كما الداخلية.
ومع أن فرنسا بلد صناعي ومتقدم، إلا أنه، وفي ضوء الانتخابات أخيراً، يعكس تحولاتٍ، ويمثل اتجاهاتٍ ناشطة في عالمنا، بجنوبه وشماله، ويقظة الهويات الضيقة مثال على ذلك.
تقدم إيمانويل ماكرون (39 عاماً) بصفته نموذجاً لفئة الشباب العصري الناجح، الساعي إلى تجاوز مواضعات اليمين واليسار، مع الإفادة من تجارب هذين المعسكرين، وبينما نال منافسوه أصوات مناصري أحزاب قديمة وجديدة، فقد فاز هو على الأغلب بأصوات شرائح تمثل قيم عصر جديد، كما تتمرأى في وعي الفرنسيين (وغيرهم): النجاح الفردي، النأي عن الأدلجة، الابتعاد عن الانغلاق الوطني، التفاعل مع العالم ابتداءً من أوروبا، من دون الطموح إلى أدوار فرنسية كبيرة تنافس أميركا وروسيا، ومثاله في ذلك ألمانيا، وبدرجة أقل اليابان وكندا وأستراليا. ولهذا، لم ينشغل كثيراً بقضايا العالم، طارحاً مواقف وسطية أو رمادية، لا تقيده
هذا علماً أن مارين لوبان تطرح نفسها بديلاً عن اليمين واليسار أيضاً، وجبهتها لا تضم أحزاباً أو ما شاكل، بل تضم وطنيين متعصبين ضاقوا ذرعاً بغيرهم، وأثقلت عليهم التعدّدية الاجتماعية والثقافية، ويُمنّون النفس بفرنسا فرنسية خالصة، لا تبتعد عن الأفارقة والمسلمين فحسب، بل عن أوروبا أيضاً. فرنسا قائمة بذاتها ومكتفية بذاتها، وليست بحاجة لإقامة أواصر وثقى مع أحد (لم تنشغل بعضوية بلادها في حلف شمال الأطلسي!)، أواصر كتلك التي تشي بها العولمة، وهي خصم آخر للوبان، بينما الشخص العصري عند ماكرون هو العولمي،
وقد راهنت لوبان على فوز ترامب في أميركا، وعلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تطورات تزكّي مواقفها، ولا شك أنها أفادت بعض إفادةٍ من هذه التطورات، إلى درجةٍ بات معها وجود جبهتها ليس أمراً نشازاً أو شاذاً، كما كان عليه الحال مع والدها، جان لوبان، الذي أزاحته عن قيادة الجبهة، وحلّت محله قبل نحو ست سنوات. ولعله الميل البشري البسيط يتقبّل، ولو على مضض، تطرّف سيدة شابة وجذابة (48 عاماً) في مقابل تطرّف رجلٍ في خريف العمر. هذا في وقت لم تحظ فيه مرشحة شابة أخرى، وهي المُدرّسة التروتسكية نتالي أرتو (42 عاماً) سوى بنسبةٍ رمزيةٍ تقل عن 1%. وعلى الرغم من روحها المفعمة بالتهذيب والغيرية والانتصار للعمال، إلا أنها تظل تبدو مرشحة فئوية ومفعمة بأيديولوجيةٍ لم تنجح في إقامة بلدان متطورة، أو إرساء نموذج يُحتذى في شرق أوروبا.
وعلى الرغم من أن النتائج ليست نهائية، بانتظار دورة الحسم في 7 مايو/ أيار، فإن التوقعات تلتقي حول ترجيح فوز ماكرون الذي استطاع استقطاب أصوات غالبية النخب الحزبية والسياسية إلى صفّه في الدورة الثانية المنتظرة، فضلاً عن التأييد من زعامات أوروبية، فيما لا تجد لوبان حلفاء سياسيين لها. ولن ينتهي الأمر عند إعلان الفائز، إذ سيحتاج الأخير إلى التفاهم مع البرلمان لتشكيل حكومة، يعود من خلالها اليمين واليسار للمشاركة في الحكم من خلال السلطة التنفيذية! وبذلك، يحق لماكرون المفاخرة بأنه قد اجترح جديداً أسمته الصحافة الفرنسية "الانفجار الكبير"، مع أن ما حدث أقل من ذلك بعض الشيء، فقد نجح الرجل بإنجاز التغيير. ولكن، مع الاستمرار الذي سيتمظهر في الأسابيع القليلة المقبلة، وسوف يتبدّى في السياسة الخارجية، كما الداخلية.