بعد ثلاثين عاماً على افتتاحه في موسكو، زمن الاتحاد السوفييتي الذي اختفى عن الخريطة السياسية، لا طوابير طويلة أمام أول مطعم ماكدونالدز مقابل ساحة بوشكين وسط موسكو. على بعد مئات الأمتار، يلحظ أي زائر للعاصمة الروسية اختفاء طوابير الراغبين في زيارة ضريح مؤسس الدولة السوفييتية، فلاديمير لينين، في الساحة الحمراء. لكن أعلاماً حمراء وصفراء عليها حرف M، كانت هناك في احتفال ضخم للتزلج على الجليد رعته ماكدونالدز، وذلك لإحياء ذكرى افتتاح أول مطعم لها في روسيا.
وعلى عكس المشهد قبل ثلاثة عقود، تبدو الحركة عادية أمام مطعم ماكدونالدز الأول في روسيا، الذي اعتبره كثيرون، حينها، علامة فارقة في تاريخ انتقال البلاد من العهد الشيوعي، إلى نموذج الاقتصاد الرأسمالي وعهد الانفتاح الثقافي.
وشكَّلت إعادة نشر الصور ومقاطع الفيديو التي توثق ذكرى افتتاح المطعم، في 31 يناير/كانون الثاني 1990، فرصة لنبش الذاكرة في حقبة شهدت تغيَّرات كبرى، لم يقتصر أثرها على روسيا، بل أعاد رسم المشهد العالمي بأكمله. وفي ذاك اليوم، تجمّع نحو خمسة آلاف شخص، منذ ساعات الفجر الأولى، رغم البرد القارس، على أمل أن يكونوا من أوائل المتذوقين لطعم "الحلم الأميركي" الذي طالما شاهدوه في الأفلام الأجنبية.
وفي اليوم الأول، بلغ عدد زبائن المطعم 30 ألف زائر، ليسجل ماكدونالدز رقماً قياسيّاً عالمياً في عدد الزبائن في يوم الافتتاح، ولم يتراجع حجم الطوابير الملتفة في الحديقة المقابلة للمطعم لأشهر طويلة، وتحول إلى مكانٍ للقاء الأول بين العشاق، وقبلة لسكان العاصمة والمدن الروسية وحتى السوفييتية.
وخلق الحدث بعداً سياسياً واجتماعياً كبيراً، لما حمله من إشارات حول انتهاء عهد "الستار الحديدي". وتعليقاً على ذكرى الافتتاح، قال الفنان الكوميدي الروسي، غينادي خازانوف، إن الأمر كان شبيها بطوابير المصطفين لزيارة ضريح لينين. وزاد سخريته في تقريرٍ لقناة "روسيا الأولى" الحكومية قائلاً: "كما اصطفت الطوابير لزيارة ضريح لينين في الساحة الحمراء، اصطف المواطنون في طوابير أمام ماكدونالدز"، لافتاً إلى أنها "ظاهرة ذات دلالات عميقة في حياة بلدنا الثقافية".
في حين قال سياسيون حينها، إنَّه كلما تناقصت الطوابير على ضريح لينين، وازدادت على مطعم ماكدونالدز، فهذا يعني أن مسيرة "إعادة البناء" و"الانفتاح"، تتواصل في البلاد التي كانت تشهد حراكاً مجتمعيّاً وسياسيّاً بين أنصار المحافظة على الدولة الشيوعية وأنصار الانفتاح، في ظل أزمة هيكليَّة عاشتها الدولة، انتهت بتفكيكها وفشل إصلاحات ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس سوفييتي.
وجاء افتتاح المطعم في وقت كان الاتحاد السوفييتي يشهد نقصاً حاداً في السلع والمواد الغذائية، ما اضطر المواطنين إلى الانتظار لساعات طويلة أمام محلات تجارية شبه فارغة، علّهم يحظون ببعض "المرتديلا" أو الجبن، واستلام مخصصاتهم من السكر والفودكا باستخدام قسائم خاصة.
الرغبة في تجريب الطعام السريع الأميركي كان دافع السوفييت لتحمّل البرد القارس وحرارة الشمس، للظفر بوجبة كان ثمنهاً باهظاً في تلك الفترة. فثمن "بيغ ماك" كان يساوي قيمة الاشتراك الشهري في الباص في مدينة موسكو. وعبَّر الكثير من الناس عن الانبهار بجمال وحداثة المطعم، والأهم، المعاملة المهذبة من قبل العاملين وابتسامهم وشكرهم على الزيارة. والأمر صادم مقارنة بما اعتاد عليه المواطنون في الكافيتريات والمطاعم السوفييتية المعروفة بمعاملة الزبائن بشكل فجٍ. وفي مقابل النقص الحاد وغياب أصناف كثيرة من القائمة في المطاعم السوفييتية، كانت ماكدونالدز تلبي كافة الحجوزات، فخرج كثير من الروس، وهم يحملون أكياساً، فيها ما لذ وطاب من الهامبرغر والمشروبات الغازية. وكان الناس يستخدمون علب "بيغ ماك" البلاستيكية الأنيقة لحمل طعامهم للعمل، كما احتفظوا بكؤوس الـ"كوكا كولا" مع علامة ماكدونالدز في رفوف مطابخهم. وانتقلت حمى تجريب "الطعام الرأسمالي" إلى المدن الأخرى، وكان كثير من المقتدرين يحضرون خصيصاً إلى موسكو بالطائرة، وينتقلون من المطار مباشرة إلى المطعم، ليعودوا محمّلين بأكياس أنيقة للأحبة والأهل، لكي يتذوقوا طعماً غير مألوف بالنسبة لهم.
ومن اللمحات الطريفة أيضاً، كيفية تناول المواطنين للساندويتشات في المطعم، إذ استغرب الكثيرون عدم وجود ملاعق وشوك، واستهجنوا فكرة تناول الطعام من دونها. وتحوّل المطعم الذي كان حينها الفرع الأكبر عالمياً للشركة إلى مكان لإحياء أعياد الميلاد وحتى الأعراس، ولكن من دون مشروبات كحولية. وتمتلك شبكة ماكدونالدز حالياً نحو 700 فرع في عموم روسيا، لكن افتتاح فرعها الأول تطلب موافقة المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي. وتضمَّن الاتّفاق على افتتاحه، استثمار مجلس إدارة الفرع الكندي للشبكة الأميركية الشهيرة بنحو 50 مليون دولار في روسيا، ودفع نصف الأرباح للدولة. وحمل شعار المطعم في ذلك الوقت، العلم السوفييتي الأحمر بالمنجل والمطرقة، تحت حرف "إم" الشهير.
واليوم، وبعد مرور 30 عاماً على ظهور ماكدونالدز في روسيا، تقدم سلسلة المطاعم خدماتها لنحو 1.5 مليون زائر يومياً، في جميع المدن، ووصل عدد الزوار بشكل عام إلى نحو 5 مليارات زائر. ولم تنجُ شبكة ماكدونالدز من تأثير الأحداث السياسية التي مرت بها روسيا في السنوات الأخيرة، إذ تعرضت لبعض المضايقات في 2014، بعد فرض الولايات المتحدة والدول الغربية عقوبات على روسيا، إثر ضمها شبه جزيرة القرم. وفي أغسطس/آب من ذاك العام، أغلقت هيئة حماية المستهلك الروسية 20 مطعماً لماكدونالدز في روسيا، من ضمنها أول وأقدم مطعم، لأسباب قالت السلطات إنها تتعلق بظروف حفظ المنتجات ومخالفات أخرى، إلا أن جميع المطاعم المغلقة عادت للعمل في الشهر ذاته، بعد تحييد المخالفات والاتفاق مع السلطات. وفي إبريل/نيسان 2015، وفي خضم الانزعاج الشعبي الروسي من العقوبات الغربية، وتعمّق الحس القومي والوطني في البلاد، أعلن المخرج الروسي نيكيتا ميخالكوف وشقيقه المخرج أندري كونتشالوفسكي، عن نيتهما إنشاء شبكة وجبات سريعة وطنية، تنافس ماكدونالدز والمطاعم الغربية في البلاد، وطلبا من الحكومة دعما بقيمة مليار روبل روسي لإطلاق الشبكة تحت اسم "يديم دوما" (لنأكل في البيت)، إلا أن السلطات تجاهلت الاقتراح، ولم يكتب للفكرة التحقق حتى يومنا هذا.