ماركيز: تعالوا أحدثكم عن الديكتاتور

14 ديسمبر 2018
(ماركيز وميندوسا في باريس، 1981)
+ الخط -

في ما يلي مقتطفات من اللقاء الذي وقع عليه اختيار المترجم المصري مارك جمال لتصدير النسخة العربية من رواية "خريف البطريرك"، وهو لقاء أجراه پلينيو أپوليو ميندوسا (1932) مع غارسيا ماركيز، حيث تطرَّق المُؤلِّف إلى بعض مفاتيح الكتاب المهمّة وأسراره في واحدة من المرّات النادرة التي فيها تحدَّث بشيء من الوضوح والاستفاضة عن "خريف البطريرك".


■ لو تعيَّن عليك تعريف كتابك بجملة واحدة، فبمَ تعرِّفه؟
- بأنه قصيدة في عزلة السلطة.


■ ولمَ استغرقت كل هذا الوقت في كتابته؟
- لأني كتبتُه كما تُنظَم الأشعار، كلمة كلمة. في البدء كنتُ أقضي أسابيع لا أكتب خلالها أكثر من سطر واحد.


■ في هذا الكتاب سمحتَ لنفسك بكل صنوف الحرية، من حيث بناء الجملة، والزمن، وربما الجغرافيا، بل وكذلك التاريخ طبقًا لما ذهب إليه البعض. دعنا نتحدَّث عن بناء الجملة. في الكتاب فقرات طويلة تخلو من النقط والفواصل المنقوطة حيث تتداخل وتتشابك المنظورات السردية. ولا شيء من ذلك في كتابتك إلَّا وكان له ما يبرِّره. فما الضرورات الضاربة في العمق التي اقتضت منك استخدام اللغة على هذا النحو؟
- تخيَّل لو كان بناء الكتاب طوليًّا، كان سيغدو لامتناهيًا وأكثر بعثًا على الضجر. ولكن في المقابل، فالبناء الحلزوني يسمح بضغط الزمن وسرد قدر أكبر بكثير من الأشياء، وكأنها مضغوطة في كبسولة. ومن ناحية أخرى، فالمونولوغ مُتعدِّد الرواة يسمح بتداخل الكثير من الأصوات من دون التعريف بنفسها، كما يحدث بالفعل في التاريخ وفي تلك المؤامرات الكاريبية الضخمة المفعمة بأسرار لا نهاية لها. على كل حال، فإنه أوفر كتبي حظًّا من التجريبيَّة وأكثرها أهميَّةً عندي بوصفه مغامرة شعرية.


■ كما أنك سمحتَ لنفسك ببعض الحريَّات من حيث الزمن.
- الكثير منها. كما تذكر، فالدكتاتور يفيق من نومه ذات يوم ليجد الجميع وقد اعتمر قلانس حمراء... فيفتح الدكتاتور نافذة مُطلَّة على البحر، وهناك يرى البارجة التي هجرها مُشاة المارينز، وسفن كريستوفر كولومبوس الثلاث المعروفة باسم الكارافيل. كما ترى، فنحن إزاء حدثيْن تاريخييْن (وصول كولومبوس وإنزال مشاة المارينز) متجاوريْن بلا أدنى اعتبار للترتيب الزمني. ذلك أنني قد سمحتُ لنفسي بكل صنوف الحرية عن عمد.


■ وماذا عن الجغرافيا؟
- الجغرافيا أيضًا. فلا شك أن بلد الدكتاتور يقع في الكاريبي. ولكنه مزيج من الكاريبي الإسباني والكاريبي الإنكليزي. فأنا أعرف الكاريبي جزيرة جزيرة، مدينة مدينة، كما تعلم. وبين دفتي الكتاب أودعتُ كل شيء...


■ في صدفة تدعو إلى الفضول، يكاد يتزامن ظهور "خريف البطريرك" مع روايات أخرى لكُتَّاب من أميركا اللاتينية تتطرَّق إلى الموضوع نفسه، الدكتاتور... بمَ تفسِّر ذلك الاهتمام المفاجئ بشخصية الدكتاتور الذي استحوذ على كُتَّاب أميركا اللاتينية؟
- لا أظنُّه اهتمامًا مفاجئًا. ذلك أنه من المواضيع الثابتة في أدب أميركا اللاتينية منذ البدء، وأفترض أنه سيظلّ كذلك. الأمر الذي يمكن تفهُّمه، فالدكتاتور هو الشخصية الميثولوجيَّة الوحيدة التي أنتجتها أميركا اللاتينية، وما زالت دورتها التاريخية بعيدة عن بلوغ نهايتها.

ولكني في واقع الأمر لستُ مُهتمًّا بالشخصية في حد ذاتها (شخصية الدكتاتور الإقطاعي) بقدر ما أنا مُهتمٌّ بالفرصة التي منحني إياها للتأمُّل في السلطة. ألا وهو الموضوع الكامن في كتبي جميعًا.


■ بطبيعة الحال. فخيوطه الأولى تتجلَّى في "ساعة الشؤم" و"مئة عام من العزلة". ولكن لا مفر من سؤالك، فيمَ يهمُّك الموضوع إلى هذا الحد؟
- يهمُّني لأني طالما اعتقدتُ بأن السلطة المطلقة هي الإنجاز الأسمى والأعقد للإنسان، ولذا فإنها تلخِّص كل ما له من عظمة وبؤس. وكما قال لورد أكتون: «إنما السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة على نحو مطلق». وذلك موضوع يلهب شغف الكاتب لا محالة...


■ قلتَ عن "خريف البطريرك" أمورًا تنطوي على قدر غير قليل من المفارقات. أولًا قلتَ إنه الأكثر شعبية بين كتبك من المنظور اللغوي، رغم أنه يبدو أكثرها زخرفًا وصعوبةً في واقع الأمر...
- كلا، بل إنني استعنتُ في كتابته بالكثير من التعابير والأمثال الشعبية من كل أرجاء منطقة الكاريبي. أحيانًا ما يُجنُّ جنون المترجمين وهم يحاولون الوقوف على مغزى عبارات ما يكاد يسمعها سائقو سيارات الأجرة في مدينة بارَّانكيَّا حتى يدركوا مغزاها ضاحكين. إنه كتاب يتَّسم بالطابع الكاريبي، الساحلي، إلى حد يثير الغضب، إنه ترف يسمح به لنفسه مُؤلِّف مئة عام من العزلة حين يقرِّر أن يكتب ما يريد أخيرًا.


■ كما تجزم أنه كتاب تدلي فيه باعترافاتك، كتاب مفعم بالتجارب الشخصية. سيرة ذاتية مُشفَّرة، هكذا قلتَ ذات مرة.
- أجل، إنه كتاب اعترافات. الوحيد الذي طالما وددتُ كتابته فلم أستطِع قبل ذاك.


■ يبدو غريبًا أن تتمكَّن من الاستعانة بتجاربك الشخصية لإعادة بناء مصير الدكتاتور. من شأن أي مُحلِّل نفسي أن يرهف السمع إلى هذا الموضع من الحديث... قلتَ ذات مرة إن عزلة السلطة تشبه عزلة الكاتب. ربما عنيتَ بقولك عزلة الشهرة من باب أولى. ألا تعتقد أن مهارتك وإنجازك دفعاك للتضامن مع شخصية البطريرك سرًّا؟
- لم أقُل يومًا إن عزلة السلطة كعزلة الكاتب. بل قلتُ، من ناحية، إن عزلة الشهرة تشبه عزلة السلطة كثيرًا، على حد قولك أنت نفسك. ومن ناحية أخرى، قلتُ إن لا مهنة تفوق مهنة الكاتب عزلةً، وبذلك عنيتُ أن أحدًا لا يقدر على مساعدة المرء في لحظة الكتابة، أو معرفة ما يودّ عمله. كلا، فالمرء في وجه الورقة البيضاء وحيد، في عزلة مطلقة.

المساهمون