ماركس يصلي في جنازة أحزاب اشتراكية في المغرب

08 أكتوبر 2019
+ الخط -
يثير مشروع التّعديل الحكومي الجديد في المغرب سجالا محتدما داخل بعض الأحزاب التي تشكّل الائتلاف السّداسي، منذ تولّي سعد الدين العثماني (حزب العدالة والتنمية) رئاسة الحكومة منتصف 2017. ويكشف، في الوقت نفسه، صراعات داخلية، وصلت إلى حّد الانفجار والعنف اللفظي، بل غدت "حلبة ملاكمة" وتوجيه ضربات قاسية أسالت دماء بين الأعضاء. هما مشهدا عنف غيرُ مسبوقيْن يختزلان تآكل العملية الحزبية وابتعادها عن حقبة الرصانة السياسية وأمجاد اليسار المعارض التي كانت لها قبل أربعة عقود: أوّلهما، أدّى تأجّج الخلافات وعصبية الإقصاء في مقرّ حزب الحركة الشعبية (تيار وسطي يحظى بتأييد الأمازيغ)، إلى تطاير الكراسي، والعنف الجسدي، ولجوء زعيمه، امحند العنصر، إلى الانسحاب بعد فشله في احتواء الموقف الدامي. وثانيهما، ضاعت بوصلة النقاش خلال اجتماع حزب التقدم والاشتراكية بين تيارٍ يريد الانسحاب من الحكومة وآخر يتمسّك بمقاعده الوزارية، فتعالت صيحات الجدل العقيم، وازداد التدافع الجسدي، ووصل العنف اللفظي إلى حدّ البذاءة الحزبية والأخلاقية، فنال الموقف من أعصاب زعيم الحزب، نبيل بن عبد الله، الذي لم "يُفَلْتِرْ" لسانه عندما استخدم عبارة نابية تستهجنها سماحة المغاربة كافة.
هي متاهة أخرى في تراجع مستوى الأحزاب المغربية ووهنها في التعامل مع الدولة، عندما ينشطر أحفاد الزعيم الشيوعي الرّاحل، علي يعته، الذى تمسّك بوحدة أحزاب "الكتلة الديمقراطية" في التسعينيات، إلى قبائل سياسية متناحرة، كادت أن تُخرج السيوف من أغمادها. هي لحظة غير عقلانية، ولا دبلوماسية، ولا من قبيل اللباقة السياسية المفترضة، تأتي نتيجة معضلةٍ حكوميةٍ، كنت وصفتُها بـ"معضلة الالتهام الذاتي" في حكومة العثماني. ومن مفارقات مثيرة أيضا أن يكون "التقدم والاشتراكية" وبقية أحزاب الكتلة، ومنها الاتحاد الاشتراكي والاستقلال، والتي كانت سيدة الموقف الحزبي المعارض في حقبة الملك الراحل الحسن الثاني، هي أضعف الأحزاب وأكثرها حيرة وسجالاً بين خياريْ التخندق في المعارضة أو الاصطفاف مع الأغلبية الحكومية حاليا. لم تعد أحزاب مبادئ، ولا منسجمة مع إرادة قواعدها الشعبية، بقدر ما يتحرّك شراعها حسب تيارات الرضا والنقمة وإيماءات الكواليس، وحسب حسابات 
تفوق إرادة زعمائها.
منذ الانتخابات التشريعية عام 1997، بدأ خلع العمود الفقري تدريجيا من جسد أغلب الأحزاب المغربية، بيسارييها ووسطييها، فدخلت حقبةَ التآكل والوهن كأنّها في نهاية الدورة الخلدونية. بدأت هذه العملية عند استيزار رفاق زعيم "الاتحاد الاشتراكي" في حينه، عبدالرحمن اليوسفي، ضمن حكومة "التناوب"، على الرغم من اعتراض زعماء الكتلة الديمقراطية وقتها على دور الوزير إدريس البصري، رجل المرحلة بالنسبة للحسن الثاني، فتشبّع أغلب الوزراء الاتحاديين بنشوة القيادة وبريق الثروة وسفريات الدرجة الأولى وفنادق النجوم الخمسة بعيدا عن مبدئية النضال اليساري. وبعد عشر سنوات، أصابتهم النقمة لدى الناخبين في اقتراعٍ مخيب للآمال، بعد أن حرقوا جل رأسمالهم السياسي.
وبعد الزلزال السياسي الذي أحدثته الانتفاضات عام 2011، بدأت لعبة جديدة بتدبير ائتلاف حكومي جمع أربعة أحزاب: العدالة والتنمية، والاستقلال، والتقدم والاشتراكية، والحركة الشعبية، بقيادة أحد وجوه الحركة الإسلامية، عبد الإله بنكيران، بحكم الضرورة وقتها. غير أن كواليس الرباط قرّرت صدّه عن رئاسة حكومة ثانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، فجرى ترتيب الورقات مجدّدا منتصف 2017 بتركيبة حزبية سداسية، تحيي رفاق إدريس لشكر (الاتحاد الاشتراكي) من سبات أهل الكهف، وتعيدهم إلى واجهة رئاسة مجلس النواب، وتولّي بعض المناصب الحيوية. بيد أنّ الشيوعيين السابقيين أو رفاق ماركس القدامى في "التقدم والإشتراكية" حافظوا على بعض المرونة بين الموالاة والمعارضة، وبين مجاراة سياسة بنكيران بين 2012 و2016 والتحفّظ على مهادنة العثماني منذ ربيع 2017.
وإذا كانت القناعة لدى الأميركيين أنّ "السّياسة أمر محلي"، فإنها لدى المغاربة تعمل بقاعدة "السياسة ولاء شخصي ورضا الكواليس". ثمّة جسور لم تتحرّك من تحتها المياه بين زعيم الحزب، نبيل بن عبد الله، وبعض رجال تلك الكواليس. ويشهد شاهد من أهلها عندما يقول بن عبد الله نفسه إنّ الأغلبية الحكومية الحالية "وضعت نفسها رهينة منطق تدبير حكومي، مفتقد أي نَفَس سياسي حقيقي يمكن من قيادة المرحلة، والتعاطي الفعال مع الملفات والقضايا 
المطروحة، وخيّم على العلاقات بين مكوناتها الصراع والتجاذب السلبي وممارسات سياسوية مرفوضة".
مؤشر آخر على شيخوخة هذه الأحزاب تدني شعبيتها في الشارع، وشكواها المتكرّرة منذ سنوات من عزوف الشباب عن المشاركة السياسية. في المقابل، تعمّدت كواليس الحكم نقل العمل الحزبي من تربته الطبيعية وأوكسجينه في الهواء الطلق إلى مختبرها التجريبي بمقاساتٍ معينةٍ من الضوء والحرارة والسماد والحُقَن. وبدأت عملية التسمين السياسي الاصطناعي تارة لإلياس العماري أمينا عاما للحزب الجديد، الأصالة والمعاصرة، وتارة أخرى لنزار بركة على رأس "الاستقلال" بعد تنحية ، وبعدهما لعزيز أخنوش الرجل الثري وصديق الملك لنقله من قيادة حزب الحركة الشعبية وإنزاله بالمظلة زعيما لحزب التجمع الوطني للأحرار، أحد الأحزاب "الإدارية" كما يصنفها المغاربة، بعد أن تمّت ولادته بإرادة القصر الملكي عام 1978، و"الأصالة والمعاصرة" عام 2008، فيما يستمر البحث عن مرشّح احتياطي في حقبة تتسم على ما يبدو بالعقم السياسي في ظهور شخصيات كازيزمية.
كان العلف السياسي فعّالا، وانتفخ بسرعة جسد "الأصالة والمعاصرة"، وكبرت شهيته، وتضخّمت الآمال المعقودة عليه، حتى حدوث الخسارة المدوّية في انتخابات 2016 بدخوله في المرتبة الثانية بـ 102 مقعد خلف "العدالة والتنمية" بـ 125 مقعدا في البرلمان. غير أنّ 
القابلين للتّسمين السياسي يقلون حاليا باتجاه اقتراع 2021، ويستمر إقحام العلف في حنجرة "التجمع الوطني للأحرار" من دون مؤشرات واقعية على قدرته على استمالة القطيع أو إطلاق "التبعبيعة"، أو بالأحرى المأمأة الانتخابية المنشودة، لضمان استقطاب الناخبين والتصويت على مرشحيه. حاولت كواليس الحكم أيضا تركيب قرون بلاستيكية، صينية الصنع، على ما يبدو، على جمجمة أخنوش، لعلّه يحسن فن المناطحة الفكرية والسياسية ضد رؤوس "العدالة والتنمية". وبالمناسبة، ذاق اثنان من "العدالة والتنمية" من العلف السياسي ذاته، وأصبحا مرشحيْ بديل إسلامي لا يمانع في الجمع بين التوفيق والتوافق مع توجيهات الكواليس.
قبل الإسهاب في هذه الرحلة على إيقاع حكاية "كليلة ودمنة" لعبد الله بن المقفع، تحتاج الأحزاب المغربية للقيام بمراجعة متأنية وصريحة مع الذات، وإعادة قراءة علاقتها مع مطالب الشارع من جهة وإرادة الكواليس من جهة أخرى، وأن تخرج من نطاق قراءتها الماضوية إلى تحدّيات المرحلة بخطط واقعية الطرح غير متخشبة الخطاب. هي ساعة الحقيقة لهذه الأحزاب، وهي تعاين عن كثب كيف أن تلك الكواليس في العقد الثاني من الألفية الجديدة تراهن على استبدال الأحزاب العضوية ذات الرصيد الوطني التاريخي بأحزاب الأنابيب في المختبر التجريبي. وأقتبس عبارة من الراحل محمد عابد الجابري مع بعض التصرّف، لأقول إنّ العقل الحزبي في المغرب "بحاجة اليوم إلى إعادة الابتكار".
90065E96-F44C-40BB-826A-869FBCA9A921
90065E96-F44C-40BB-826A-869FBCA9A921
محمد الشرقاوي

باحث مغربي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا، من أحدث مؤلفاته بالإنجليزية "ماهو التنوير: استمرارية أم قطيعة في أعقاب الانتفاضات العربية".

محمد الشرقاوي