تعالَ معي في رحلة قصيرة لأحد محال بيع المنتجات الغذائية في منطقتنا العربية، ولنعتبره سوبرماركت العرب، نتعرف فيه على حجم المنتج الغذائي العربي، خاصة السلع الاستراتيجية بالنسبة للمستورد، لنلقي الضوء على الأمن الغذائي، أحد أهم مكونات الأمن العربي. ودعنا نصطحب أحد ممثلي المنظمة العربية للتنمية الزراعية، وهي إحدى مؤسسات الجامعة العربية المسؤولة عن رصد أوضاع الأمن الغذائي العربي.
ثم تعالَ نتفق لنستبعد من هذا المحل ما هو غير عربي من غذاء بإشراف مسؤول المنظمة الزراعية، ليكون الشاهد من أهلها، بحيث لا تتبقى في السوبرماركت إلا الأغذية المنتجة في الدول العربية فقط.
ثم ننظر ماذا يتبقى في هذا المحل العربي من غذاء بعد استبعاد الأغذية المستوردة من خارج المنطقة العربية.
وتعالَ نبدأ أولاً بأهم الأقسام، وهو قسم الخبز لنستبعد أنواع الخبز المصنوعة من القمح الأميركي أو الفرنسي، ونُبقي فقط على الخبز المصنوع من القمح العربي، فنفاجأ بأن ممثل المنظمة الزراعية يستبعد 60% من المخبوزات، لأن الأمة العربية مجتمعة لا تنتج سوى 40% من احتياجاتها من قمح الخبز وتستورد الباقي!!
ثم تعالَ إلى قسم السكر، وهو أيضاً منتج استراتيجي، فيتم استبعاد 70% من المعروض، لأن الأمة لا تنتج سوى 30% منه محلياً!! وفي قسم البقوليات، يستبعد 50% من الفول والعدس، لأن الأمة لا تنتج سوى 50% من احتياجاتها وتستورد النصف الآخر!!
وتعالَ إلى قسم الزيوت ليستبعد 65% من زيوت الطعام، لأنها مستوردة ولا يبقى سوى الثلث تقريباً الذي ينتج محلياً!!
وتعالَ إلى قسم اللحوم بنوعيها الحمراء والبيضاء، فتجد العجب. ممثل المنظمة يخبرك أن إحصائيات المنظمة تدل على أن الدول العربية مكتفية ذاتياً من اللحوم الحمراء بنسبة 80% ومن البيضاء بنسبة 65%!
لكن الباحث الفاحص يقول إن الأمة تستورد كل الذرة الصفراء وفول الصويا تقريباً، وهما يمثلان 70% من مكونات علف الدواجن بالذات، هذا غير الأدوية البيطرية والأمصال واللقاحات، وهي تمثل 20% من الصناعة، وبالتالي تصبح نسب الاكتفاء من اللحوم غير حقيقية، ولا تساهم أفضل الدول العربية بأكثر من 15% من مكونات صناعة الدواجن وتستورد 85% من هذه المكونات من الخارج!!
والكلام ينطبق على بيض المائدة.
أما منتجات الألبان، فنسبة الاكتفاء منها 75% والمستورد 25%. ومنتجات الأسماك من إنتاج الدول العربية نسبتها تتخطى 90% وتستورد الباقي.
لا يتبقى من سلع غذائية سوى الخضر والفاكهة، والإنتاج منها، طبقاً لتقرير المنظمة، يكفي الاستهلاك، لكن بيانات الموز والتفاح، وهي الأكثر تداولاً، تدل أيضاً على أنها ذات مناشئ غير عربية!!
كما أن كل أرقام المنظمة السابقة مستندة إلى إحصائيات الحكومات العربية، والتي عادةً ما تبالغ في نسب الاكتفاء الذاتي التي يسميها الباحثون "أرقاماً حكومية"، يعني تنقصها المصداقية.
في نهاية هذه الرحلة القصيرة، تكتشف أن سوبرماركت الأمة العربية أصبح شبه فارغ من الأغذية الاستراتيجية بعد استبعاد المستوردة، وأن المنتج العربي من القمح لا يكفي سوى خمسة أشهر، والزيوت أربعة أشهر، والبقوليات ستة أشهر، والسكر ثلاثة أشهر ونصف!!
وإذا لم تتدارك الحكومات العربية، بجدية وصدق، سياساتها الزراعية الفاشلة والمسؤولة عن تفجير ثورات الربيع العربي، فسيظل الوضع مرشحاً لمزيد من الثورات والحبل على الجرار، ورحم الله الشيخ حمد الغزالي الذي قال: "أمة تايهة يا ولاد الحلال"، والشاعر جبران خليل جبران الذي قال: "ويل لأمة تأكل ممّا لا تزرع".