غيَّر ظهورُ الكتابة التاريخَ البشري، بنقلها للإنسان من طور الثقافة إلى طور الحضارة، كما بدَّلتْ هذه الكتابةُ، على امتداد التاريخ، حامِلَها الماديَّ، فقد جُسِّدتْ قديماً منحوتة في الألواح والصخور وعلى الجدران، ورُسمتْ في القماش وأوراق البردى وعلى الجلد إلى أنِ انتهى بها الأمرُ مكتوبة في الكاغد والقرطاس أوراقاً تُخطُّ باليد فتُطبَع وتُصفَّف وتُصمَّم، ليَضمَّها كتابٌ يُجَلّد، فيُضفي عليها أبهة وأناقة، دونَ أنْ تُغْفِل البُعْد العمليَّ لاستعمالِه، أي لتيسيره للقُرّاء بصفته امتداداً للفكر، مثلما قال بورخيس، بخلاف الأدوات الأخرى التي تُعَدُّ امتداداً لأعضاءِ الجسد.
ثم عَرفَت الكتابة انعطافاً مُذهِلاً، في العقود الثلاثة الأخيرة، مع الثورة الرقمية التي لم تفتأ تنوِّع في حوامِل الكتابة، مثلَ ابتكارِها الكتابَ المسموع، أو كتحميلِها في الكتاب الإلكتروني واللوحات والهواتف المحمولة التي تُدرَج فيها جميعاً صُوَرٌ أو مَشَاهد توثيقية أو مسرحية أو فيلميّة أيضاً، أو تُضمَّن معها في تلك الحوامل مَعزوفاتٌ. ومع ذلك، لَمْ تُفلحْ كلُّ هذه الابتكارات في أنْ تُسْقِط عن الكتابة مادِّيتَها، فقد ظلَّت الأخيرةُ لحد الآن حاضرة باعتبارها نصاً ترافقه مكوِّناتٌ خارجية.
هكذا تكشف الكتابةُ عن أنها تَنْذُر ذاتَها للتحوُّل من حال إلى حال، وهو ما تَهْتَبِله الترجمةُ فرصةً لَتجليَتِها لذاتها، بَعد محوِها للأولى عبر مواجَدةٍ تتجسَّد في الحركة والحضور ضيفة على آخر، في وَضْعٍ مختلف؛ أي في ولادة جديدة تمنح حياة أخرى لنص يكون طيَّ المجهول في لغته، وفي وَضْعٍ بمعنى حال واحدة من بين ترجماتٍ كثيرات محتملة للأصل الأوَّل، لأنَّ الترجمة دَيدَنُها انتقالٌ وتحوُّل حِسيٌّ من سياق اجتماعي وثقافي إلى آخر، فهي حركة مادّية بالضرورة، طالما تعتمد أصلاً ماديّاً مطبوعاً هو النص في لغته التي أُلِّف بها، وتبني عالَماً نصيّاً موازياً للأول، تُصْدِرُه نصّاً مطبوعاً ومحسوساً لا تخطئه العين، يَحْضُر في هيئة علامات لغوية يُمكن أن تَصِير أصواتاً وألواناً.
ما يُسوِّغ نعتَ الترجمة بالمادية هو أنها مُنتَج محسوسٌ، يُعرَض على العين مثلما يُعرَض في السوق، وأنها صناعة يُسهم فيها أكثر من طرف، لأنها عملية قد تُنجَز من قِبل واحد أو أكثر عند نقل النص وإفراغه في لغة أخرى، ويعمل على إخراجها إلى الوجود عُمّالٌ في المطبعة والتَّوزيع وغيرهما، ويجعلُها هؤلاء جميعاً نصاً مقروءاً ومُندرِجاً ضمن الأشكال المادية وحتى الفنية.
ويذكِّرنا بورخيس بالبعد المادي والفني في الترجمات، في سيرته بافتتانه بالكتب، فيقول: "فلو كان لي أن أُشير إلى الحدث المركزيّ في حياتي لقلتُ مكتبة أبي. في الحقيقة، أعتقد أني لم أَبْرَحْ تلك المكتبة أبداً". وبعد أن يتحدَّث عن الآثار الأدبية الكلاسيكية العظيمة التي قرأها هناك باللغة الإنكليزية، بما في ذلك دون كيخوته بترجمة بُورْتُون، "التي لمّا قرأتُها لاحقاً في أصلها، بدتْ لي ترجمةً سيئة".
وفي السياق نفسه، يضعنا بورخيس أمام سرّ افتتانه بترجمة دون كيخوته في طبعة غارْنْييه الفرنسية، بقوله "لا أزال أتذكَّر تلك المجلّدات الحمراء بحروف منسوخة بالذَّهب في طبعة غارْنْييه. في لحظة ما تجزَّأتْ مكتبة أبي، ولمّا قرأتُ دون كيخوته في طبعة أخرى غمرني إحساسٌ بأنه غَيْرُ الكتاب الحقيقي. ولاحقاً جعلْتُ صديقاً يَحصل لي على طبعةَ غارْنْييه، بالصُّوَر نفسِها المحفورة بالفولاذ، والملاحظات نفسها أسفل الصفحة، وأيضاً بالأخطاء المطبعية نفسِها. بالنسبة إليَّ، تُشكّل كلُّ تلك الأشياء جزءاً من الكتاب؛ وأعتقد أن ذلك هو دون كيخوته الحقيقي".
ويُضيف بورخيس في موضع آخر من سيرته: "اكتشفْتُ في جنيف أيضاً والتْ وِيتْمَان، بفضل ترجمة ألمانية أنجزَها جوهانز شْلاف [...] كنتُ واعياً، طبعاً، بعبث قراءة شاعر أميركي بالألمانية [...] ولا أزال أتذكَّرُ ذلك الديوان بغلافه الأخضر".