مأرب .. تهديد بقايا حياة آمنة لشتات يمنيين
تصاعدت حدّة المعارك في جبهات مدينة مأرب في اليمن، ما يهدد حياة أكثر من مليوني مواطن ونازح، ويدمّر البنية التاريخية لواحدةٍ من أعرق المدن الحضارية في العالم. وفيما انتقل الصراع إلى محيط مدينة مأرب أخيراً، فإن انتصار طرفٍ محكومٍ بموقف اللاعبين الإقليميين والدوليين أكثر من قدرة الأطراف المحلية على تغيير خريطة الصراع، ومع ضبابية مواقف القوى المتدخلة في اليمن، بما في ذلك تغذيتهم الصراعات البينية، وتمكينهم للقوى المليشياوية، وكذلك تجاهل الأمم المتحدة أثر التصعيد العسكري من الحوثيين على حياة المدنيين، فإن ذلك يجعل مدينة مأرب في مرمى صراعٍ مدمّر، إذ يخوض مقاتلو جماعة الحوثي معارك شرسة في أكثر من محور، بهدف تطويق المدينة، بعد أن مكّنتهم التطورات العسكرية من اختراق حدودها الغربية، بالإضافة إلى توسّعهم في جبهاتٍ أخرى. كما أن تنامي الصراعات في معسكر السلطة الشرعية ومنافسيها في جبهة أبين ومدينة تعز، بما في ذلك انشغال أطرافها في تشكيل حكومة اتفاق الرياض (مع المجلس الجنوبي الانتقالي)، منح جماعة الحوثي القدرة على إدارة أولوياتها العسكرية والسياسية، ودفع مقاتليها في جبهات مأرب، مقابل تمترس القوى المنضوية في السلطة الشرعية، مع شتاتها، للدفاع عن المدينة.
تخوض جماعة الحوثي معركة مأرب بكل إمكاناتها العسكرية والسياسية، لتحقيق مكاسب متعدّدة
تخوض جماعة الحوثي معركة مأرب بكل إمكاناتها العسكرية والسياسية، لتحقيق مكاسب متعدّدة، بهدف ضرب معقل السلطة الشرعية وخصومها، وتشتيتها، ما يمكّنها من فرض شروطها في أي تسويةٍ قادمة، فضلاً عن الثروات النفطية في مدينة مأرب التي تشكّل دافعاً آخر لاستبسال مقاتلي الجماعة لاختراق جبهات المدينة، إذ صدرت معركتها في مأرب باعتبارها معركةً عقائديةً وسياسيةً مركزية. فخلال الأشهر الأخيرة، كثّفت عملية تجنيد المقاتلين لدعم جبهات مأرب، بحيث شملت جميع المناطق الخاضعة لها، إذ أجبرت قادة القبائل والمشايخ على الدفع بتجنيد مقاتلين، سواءً بالإكراه أو بمنحهم امتيازات، فضلاً عن التجنيد القسري واختطاف مواطنين وزجّهم في جبهات مأرب. ومن جهة ثانية، اتخذ التحشيد الديني والسياسي خطاً تعبوياً في المجتمع المحلي، انطلق من أعلى هرم في سلطة الجماعة التي أعلن زعيمها عبد الملك الحوثي مرحلة التعبئة القتالية الكاملة لمعركة مأرب، ودعوة المواطنين إلى دعم المقاتلين بالمال والسلاح. رافق ذلك تحشيد طائفي لأئمة الجوامع، وحملات إعلامية لضخ مقاتلين إلى مأرب، ودعم جبهاتها مالياً وسياسياً. ومن جهة ثانية، مثّلت معركة مأرب، بالنسبة للجماعة، معركة محورية لتوحيد أجنحتها السياسية تحت مظلة واحدة، إذ صعّد الاسترخاء الذي رافق تحوّل جماعة الحوثي إلى سلطة أمر واقع صراعات أجنحتها على النفوذ والثروة، وتنافسها على اقتصاد الحرب، مع محاولة سلطة الجماعة، إخراج بعض قيادات الصف الثاني من العاصمة صنعاء، وتعيينهم محافظين في المناطق الخاضعة لها أخيراً، فإن ذلك لم يوقف الصراعات البينية. ولذلك وجدت أن خوض معركة مأرب يوقف صراعات أجنحتها المتنافسة، بالإضافة إلى إغرائها بثروات مأرب، وما يعنيه ذلك لجماعةٍ تعتمد على الفيد (النهب والسرقة) في إدارة تحالفات مراكز نفوذها، ومن ثم هي معركة مغرية لخوضها حتى النهاية.
اتخذ التحشيد الديني والسياسي خطاً تعبوياً في المجتمع المحلي، انطلق من أعلى هرم في سلطة الجماعة الحوثية
إلى ذلك، شكّل استقرار جبهات القتال الرئيسية التي مثلت جبهات ضغط مباشر على جماعة الحوثي، بما في ذلك استنزاف مقاتليها، متغيراً حيوياً مكّنها من توجيه مقاتليها في اتجاه مأرب، فعدا عن جبهة مدينة الضالع، والجبهات الحدودية التي ظلت تستنزف الجماعة عسكرياً طوال الحرب، فإن الجبهات الأخرى تأثرت بموازين القوى المستقرة، وكذلك بالصراعات البينية في معسكر الشرعية ومنافسيها. فمع حدوث اشتباكاتٍ متقطعةٍ من حين إلى آخر بين مقاتلي جماعة الحوثي وقوات العميد طارق صالح، الجناح العسكري لحزب مؤتمر الرئيس السابق علي عبد الله صالح، في جبهة الحديدة، فإن استقرارها، إلى حد ما، بسبب التدخل الدولي، وكذلك انهماك العميد طارق في تثبيت سلطته على الساحل الغربي، ومدينة المخا، بحيث لم تعد جبهة الحديدة تشكل ضغطاً على مقاتلي الجماعة، فضلاً عن تصاعد صراع مؤتمري صالح مع حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يخوض معركة كسر عظم ضد ما تبقى من اللواء 35 مدرّع في مدينة التربة، والاستعدادات لمعركته المستقبلية لاسترداد مدينة المخا من منافسيه المؤتمرين، كل هذه العوامل مكّنت جماعة الحوثي من توحيد جبهتها في اتجاه مأرب. كما أن سيطرة الجماعة على مديرية نهم، شرق صنعاء، بداية العالم الحالي، ثم مدينة الجوف، المجاورة لمأرب، وما أفرزته تطورات المعارك العسكرية في جبهة البيضاء من تقدّم مقاتلي الحوثي في مديرية قانية، ويكلا، مكّناها من اختراق جبهة ماهلية، غرب مأرب، واشتداد المعارك في مديرية مدغل الذي أدّى إلى نزوح أكثر من عشر ألف نازح إلى مركز المدينة.
شكّل استقرار جبهات القتال الرئيسية التي مثلت جبهات ضغط مباشر على جماعة الحوثي، بما في ذلك استنزاف مقاتليها، متغيراً حيوياً مكّنها من توجيه مقاتليها في اتجاه مأرب
مع تقدّم مقاتلي جماعة الحوثي، في بعض جبهات الحرب، وذلك للتركيبة العقائدية المليشياوية للجماعة، وكذلك كونها طرفاً وحيداً ضد قوات الشرعية ومنافسيها وخصومها، فإن معارك جبهات مأرب شكلت استنزافاً خطيراً لها، إذ قتل آلاف من مقاتليها في جبهات مأرب، بما في ذلك قيادات عليا، بحيث لن تستطيع ضخ مقاتلين أكثر، مع تجنيدها عشرات من اللاجئين الأفارقة، وأفراد من الطبقة المهمّشة المعدمة من اليمنيين. ومن جهة أخرى، لا يمكن اعتمادها على قدرتها الذاتية في فرض سلطتها في المناطق الخاضعة لها، بحيث تضمن استقرار جبهتها الداخلية، الأمر الذي يجعل امتدادها إلى مناطق أخرى، تختلف في تركيبتها مع المناطق الخاضعة لها، مغامرة غير محسوبة العواقب، فضلاً عن صعوبة إسقاطها مأرب، فالجماعة التي أسّست سلطة دينية طائفية قسرية في المناطق الخاضعة لها، على حساب إرهاب المواطنين وإفقارهم، يجعلها بدون غطاء سياسي، في حال غامرت في التقدّم في منطقة جغرافية، كمأرب التي لا تمثل حاضنة شعبية لها، حتى لو تحالفت، بشكل غير مباشر، مع قوى قبلية تشعر بالغبن، لإزاحتها من السلطة المحلية في مأرب، إذ تبدو السياقات التاريخية في المدينة التي ترفض الجماعة سياسياً وطائفياً أعمق من التناقضات في صفوف خصومها.
يطغى على المنظومة المقاتلة في صفوف الشرعية في جبهات مأرب التشتت وغياب قيادة عسكرية موحّدة تدير المعارك
في المقابل، يطغى على المنظومة المقاتلة في صفوف الشرعية في جبهات مأرب التشتت وغياب قيادة عسكرية موحّدة تدير المعارك، وتوجه إمكاناتها إلى دحر مقاتلي الجماعة، فإضافة إلى وهمية ألوية عسكرية كثيرة في مدينة مأرب، وفي الحدود عموماً، والتي شكلت نقاط ضعف قاتلة، يسهل اختراقها، فإن السلطة الشرعية فشلت في توحيد ما تبقّى من القوات المنضوية في صفوفها للدفاع عن مأرب أمام ضغط مقاتلي الحوثي؛ من جهة، انعكست سيطرة حزب الإصلاح على القوات العسكرية، وإخضاعها لمعاركها السياسية ضد خصومها على معركة مأرب، إذ دفعت كثيرين من الجنود في جبهة أبين، ضد قوات المجلس الانتقالي، بما في ذلك مقاتلون قبليون مأربيون. ومن جهة ثانية، أدّى تصدر حزب الإصلاح في مأرب إلى تشتيت المعركة سياسياً، إذ مكّن خصومها ومنافسيها من تحويل المعركة إلى جبهات أخرى، كجبهة التربة، ومن ثم فشلت السلطة الشرعية، كقيادة سياسية، في توحيد جبهتها العسكرية للدفاع عن مأرب، فيما يخوض مقاتلو قبائل مأرب معركة شرسة للدفاع عن المدينة، مع تدخل الطيران السعودي في المعارك، وما زالت قبائل مأرب تدفع مقاتليها لإسناد الشرعية في كل الجبهات تقريباً، بما فيها معارك مدينة البيضاء حالياً، وأبين، فإنها كما يبدو وحيدة، تقاتل ضد الحوثيين.
أصبحت مأرب، بفضل الحرب، مدينة مركزية، بعد أن ظلت هامشية عقوداً، وطاردة أبناءها، على الرغم من ثرواتها النفطية التي تصارعت عليها السلطات السياسية المتعاقبة
إلى ذلك، تؤثر عوامل أخرى في جعل معركة مأرب مفتوحة وغير محسومة لأي طرف، فإذا كانت سياقات الحرب ومآلاتها قد غيّرت صيرورة المدن اليمنية، بحيث نقلت بعضها من الهامش إلى المركز، مع أهمية ذلك في تنمية مدن الهامش، بما في ذلك استفادتها من انتقال رأس المال إليها، وتنامي المشاريع العمرانية، فإن مدينة مأرب تدفع، كما يبدو، ضريبة ذلك، إذ أصبحت، بفضل الحرب، مدينة مركزية، بعد أن ظلت مدينة هامشية عقوداً، وطاردة أبناءها، على الرغم من ثرواتها النفطية التي تصارعت عليها السلطات السياسية المتعاقبة. ومع إيجابيات هذا التحول، إلا أنه أثر سلباً على تركيبتها الديموغرافية، وعلى تحديد أولوياتها في الحرب، بما في ذلك تأثير الأطراف السياسية الوافدة إليها على صيرورة القتال مع الحوثيين، بما في ذلك تغذيتها الخلافات البينية في جبهة معسكر الشرعية. فنتيجة دورات الصراع المتعاقبة في عدن، العاصمة المؤقتة للسلطة الشرعية، أصبحت مدينة مأرب العاصمة السياسية، ومنطقة جاذبة، ووجهة رئيسية للطبقة السياسية للشرعية، وكذلك رأس المال، والباحثين عن استقرار هشّ، بحيث رافق ذلك تنامي المشاريع العمرانية التي وفّرت سوق عمل للعاطلين، واليد العاملة، بالإضافة إلى توسّع المدينة، وتحديثها، كما أن خروج قيادات حزب المؤتمر، بعد جولة الاقتتال بين جماعة الحوثي وصالح، في صنعاء، إلى مأرب، أدّى إلى تحوّل آخر، اجتماعي وسياسي واقتصادي في المدينة، مع استقرار معظمهم في مدن الساحل الغربي، ومدينة عدن. إلا أن الوافدين من مختلف الشرائح الاجتماعية، وتنوّع مشاربهم السياسية الذين يشكلون قوىً وافدة جديدة، بما في ذلك النازحون إلى مدينة مأرب من الجوف وحجة وصعدة والبيضاء، وكذلك اللاجئون الأفارقة بمخمياتهم في داخل المدينة وخارجها، يشكل ضغطاً حقيقياً على المدينة، ومركزاً يتجمع فيه شتات مختلف، على حساب أبنائها من القبائل، وعلى أولوياتهم الحياتية والسياسية، الذين وجدوا أنفسهم، كما يبدو، المعنيين الرئيسيين في الدفاع عنها أمام ضربات مقاتلي الحوثي.
وفي معادلة الحياة اليومية، تتجاوز مدينة مأرب المضامين السياسية بوصفها عاصمة للشرعية، وركيزة لليمن الجمهوري، إلى حياة متاحة لليمنيين في ظل الحرب، ضمن حدود ضيقة للعيش، وهرباً من مدن الاحتراب السياسي والطائفي والمناطقي، هي مدينة للنازحين اليمنيين والوافدين والمهجّرين. وبالتالي، على العالم الذي يتابع بلا مبالاة نتائج المعارك في جبهات مأرب أن يتدخل لوقف تقويض ما تبقى من أمان هشٍّ يلجأ إليه المنكوبون.