ليلة القبض على المالكي

13 اغسطس 2014

أوباما والمالكي في حديقة البيت الأبيض (22 يوليو/2009/أ.ف.ب)

+ الخط -


انقضت ثماني سنوات عجاف يابسات من عمر العراق والعراقيين، تصدر فيها نوري المالكي المشهد السياسي، فأمعن في البلاد خراباً ودماراً، أسقط حقوق الناس المختلفين معه، أنكر عليهم هوياتهم ومعتقداتهم، حاربهم في أرزاقهم، أغرقهم في حمّى الانقسامات العرقية والتشرذم الطائفي، أدخلهم السجون والمعتقلات، سامهم على أيدي زبانيته وأعوانه سوء العذاب، شردهم من مدينة إلى مدينة، وأقام بينهم الحواجز، ودفع بمئات الآلاف خارج الحدود، حرّض على الحروب وزرع الأحقاد، ابتلعت سلطته المليارات، وأتخم جيوب أتباعه بالملايين، وكان آخر خطاياه أنه أدمن السلطة، أغرته الدنيا وصم أذنيه عن نداء الله، وتصور أنه باق إلى يوم يبعثون، وعندما جاءت ساعة سحب الكرسي الذهبي من تحته، سقط متخبطاً في أخطائه وخطاياه، تشيعه لعنات الأصدقاء قبل الخصوم!

لكن، رحيل المالكي ومجيء حيدر العبادي ليسا كافيين لتلميع صورة "العملية السياسية" المملوءة بالثقوب، ولا لإعطاء العراقيين جرعة أمل، في أن غدهم سيكون أفضل من يومهم، أو أن الحرائق المشتعلة، في غير مدينة وناحية من بلادهم، ستنطفئ بقدرة قادر. فالعراق، الغارق في لعبة العنف والدم منذ أكثر من عقد، لم تعد تنفع معه المهدئات والجراحات الصغيرة، فهو محتاج جراحة كبيرة، قد تكون صعبة على بعضهم، ومؤلمة لبعضٍ آخر، جراحة معقدة تهدف إلى إسقاط "العملية السياسية"، وتفكيك مرتكزاتها، وإرساء معالم عملية سياسية وطنية عابرة للطوائف والإثنيات، ومبشرة بوعود بناء ديمقراطية حقيقية، وضمان حرية المواطن، واحترام حقوقه الأساسية، هذه المهمة لن يستطيع القيام بها أحدٌ من رجال الطواقم التي سلمها المحتلون السلطة على طبق من ذهب، مهما حسنت نواياه، وأسعفته خبرته.

في هذا السياق، يذكر بعضهم للعبادي خلفيته العلمية العالية، ويشهد آخرون بنزاهته الخلقية الرفيعة، ويبشر غيرهم بأنه يحمل وعداً بالتغيير، لكنه التغيير الذي له مواصفاته المرسومة من قبل، وحدوده التي لن يسمح له سادة العراق، الأميركيون والإيرانيون، بتخطيها، خصوصاً، وهم يدركون تماماً أن أي تغيير جذري في اللعبة السياسية قد يغير مواقع أحجار الشطرنج، وقد يؤدي إلى قلب الطاولة على رؤوسهم، كما أن المفاجآت لم تعد في وارد أحد، فخطوط الطول والعرض التي رسمها الأميركيون للعراق، منذ التاسع من أبريل/ نيسان 2003، تفرض آليات صارمة في التعامل داخل الفضاء السياسي العراقي، وقد أفصح رجال الإدارة الأميركية صراحة، وهم يعربون عن دعمهم انتقال السلطة من المالكي إلى العبادي، بأنهم لن يسمحوا بالمساس بالعملية السياسية القائمة، لأن أي مساس بها يعني خسارتهم كثيراً مما حققوه في العراق والمنطقة. ويتطابق ذلك مع موقف الإيرانيين الذين يشكل انهيار العملية السياسية بالنسبة لهم بمثابة سقوط للدفاعات الأمامية للأمن القومي الإيراني، وهو ما لن تسمح به إيران مطلقاً.

هذا يعني أن الوضع الحالي، في ظل رئيس الوزراء الجديد، سيدخل مرحلة "الجمود" المتفق عليه، والذي يتيح، إلى حد ما، القيام بإصلاحات قانونية وسياسية جزئية ومحسوبة، ترضي فئاتٍ وقطاعاتٍ من طوائف معينة، مورس ضدها الإقصاء، في سنوات حكم المالكي، وتخفف من تعاظم السخط ضد السلطة، والذي إذا ما انفجر قد يقضي على الأخضر واليابس معاً، وقد يصبح بالإمكان عبر تلك الإصلاحات، انتزاع بعض من زخم وقوة الحراك الشعبي الماثل في أكثر من مدينة عراقية.

هذا يعني، أيضاً، أن على المواطن المقهور، والمغلوب على أمره، أن يحسب حساباته جيداً، إذ ليس في مقدوره الانتظار أربع سنوات أخرى، لكي يشهد التغيير الذي يطمح إليه، وقد تمتد السنوات الأربع إلى ثمان، ومن يدري، فقد يصبح القبض على السلطة امتيازاً مدى الحياة، يتم توريثه للأبناء، كما كان المالكي ينوي أن يفعل!

وهذا يعني، أيضاً، أنه إذا لم يتجذر وعي عال، لدى رافضي العملية السياسية والمطالبين بالتغيير بضرورة وضع استراتيجيات جديدة، لمواجهة متطلبات المرحلة المقبلة، وهو أمر يستدعي، أولاً، عقد حوارات مفتوحة، وإنضاج وسائل وصيغ تمهد لعقد مؤتمر أو مؤتمرات، في مسيرة كفاح سلمي متواصل ومعقد، وصولاً إلى التغيير المطلوب.

وبغير ذلك، سوف يظل الوضع على حاله، وسيظل العالم يتفرج على التراجيديا العراقية متعددة الفصول، سنوات أخرى، وقديماً قيل "إذا تغير الزمان يتغير السلطان"، نحن نحتاج، إذن، إلى أن نغير زماننا أولاً، كي يمكننا تغيير السلطان!

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"