ليزبيث زورنيغ: لن أعود بسيارتي فارغة

26 سبتمبر 2016
(الكاتبة في منزلها في كوبنهاغن)
+ الخط -

في آذار/ مارس الماضي أصدرت المحكمة الدنماركية قراراً بفرض غرامية مالية كبيرة على الكاتبة، ليزبيث زورنيغ، بتهمة "تهريب البشر"، لكنها استأنفت الحكم هي وزوجها، الذي غُرّم بنفس التهمة، المفاجأة كانت حين أصدرت "محكمة شرق العليا"، أول أمس، حكماً مشدداً يغرّمها بمبلغ أكبر من السابق.

كانت زورنيغ قد أُوقفت في السابع من أيلول/ سبتمبر العام الماضي وهي تقلّ مع زوجها في سيارتها، عائلة لاجئة من فلسطينيي سورية إلى السويد؛ ففي ذلك اليوم توجّه عشرات الدنماركيين بسياراتهم نحو الطريق السريع بين بلادهم وألمانيا ليقلّوا عائلات منهكة مع أطفالها، بعد أن أحجمت السلطات عن توفير وسائل نقل لهم. آنذاك، رفضت زورنيغ تهمة تهريب البشر، إذ اعتبرت أن ما قامت هو الأصل، إذ إن "تقديم يد المساعدة لمن يحتاجها هو واجب إنساني".

أثارت قضية الحكم الأول بعض المتعاطفين مع توجّهات زورنيغ الإنسانية، فأسّس هؤلاء حملة لجمع قيمة المخالفة بـ 45 ألف كرونا (حوالى 7 آلاف دولار أميركي)، ليصل ما جمع لها إلى ضعفي المبلغ المطلوب كغرامة. لم يمر هذا التضامن بسلام، فقد اعتبره اليمين المتشدد إشارة إلى رفض قرار المحكمة، الذي استأنفته زورنيغ وساندتها في قرارها جهات حقوقية، ووُصف التحرّك بأنه "عصيان ضدّ القوانين".

لم تُخْف الكاتبة موقفها الرافض لـ "تجريم مساعدة اللاجئين"، وهي التي تعتبر في أحاديثها أن ما قامت به "ليس سوى مخاطرة بسيطة جداً مقابل ما مرّ به هؤلاء البشر". بل أثارت هذه السيدة بتصرفها، وذهابها إلى تقديم "شكر للعائلة اللاجئة التي علّمتني أشياء كثيرة في السيارة"، المزيد من النقاش حول "دور الكاتب والمثقّف في لحظات تفشّي العنصرية والتطرّف القومي" وفق ما ذهب إليه كتاب مؤيدون لها.

قبل الحكم الأخير عليها برفع قيمة الغرامة عمّا كانت عليه في الحكم الأول، ذهبت أحزاب وشخصيات دنماركية إلى طلب إقرار برلماني يلغي "تجريم نقل اللاجئ". لكن المثير أن "الجو اليميني" هيمن على عمل البرلمان، فلم يؤيد أكبر أحزاب الوسط، الحزب "الاجتماعي الديمقراطي"، مطالب الأقلية اليسارية في هذا المجال.

زورنيغ ككاتبة ومالكة لمأوى للأطفال يحمل اسمها، لم تستأنف الحكم لحاجتها المالية، بل لأنها تعتبر "القانون جامداً ومُجحفاً" حين يتعلّق بالإنسان ومشاعره. وحين أمطرتها صحافة اليمين الشعبوي بتهم عدّة، وصفت بكلمات بسيطة ما أقدمت عليه يومها: "كان يكفي أن ترى في عيني التوأم تلك النظرات الضائعة، فلا تستطيع أن تعود بسيارتك فارغة.. ولا أريد أن أستفز أحداً، لكن حين تلتقي بهؤلاء الصغار المتعبين والهاربين من سورية فلا بدّ أن تفعل شيئاً".

لكن من هي ليزبيث زورنيغ؟ يراها بعض أهل بلدها "المثقفة الجميلة، كالأم تيريزا". لكنها ترى نفسها "جندياً مطارداً في حرب وحشية". هي أيضا كبرت في "الطبقة الدنيا للمجتمع، تلك المخبأة بعيداً عن أعين الناس" بحسب وصفها.

عُرفت زورنيغ (1968) في الأوساط الأدبية الدنماركية، قبل سنوات قليلة، إذ حظي كتابها الصادم (2011)، بقراءة واسعة، حيث تتحدّث في سيرتها "زورنيغ، الغضب هو اسمي الأوسط" عن طفولتها القاسية المليئة بإخفاقات والديها الكبيرة وإدمانهما على الكحول والمخدرات، وممارسة عنف جسدي واعتداء جنسي عليها من قِبل زوج والدتها.

صدمت الكاتبة قرّاءها بكشفها فشل المؤسسة الرسمية في حماية الأسرة والطفل. تروي زورنيغ كيف جرى تحطيمها هي وإخوتها الثلاثة في منزل العائلة؛ حيث تعلّموا "الصمت عمّا يجري وعدم البوح بشيء". اعتبر النقّاد كتابها هذا "سيرة ذاتية تفطر القلب وتهزّ الإنسان بعنف لما يعانيه الأطفال بعيداً عن أعين المجتمع".

وإن كاتت زورينغ قد لقيت الكثير في حياتها وهي تتنقل بين "مأوى أطفال وآخر"، فإنها رغم ذلك قاتلت بعناد لكي تدرس وتتخرّج مصرّة على ألا ينتهي الحال بالشابة ليزبيث حيث ينتهي حال "من كان يذهب للحانات بحثاً عن أمه وأبيه ليأكل".

صنعت الكاتبة أيضاً العديد من الأفلام الوثائقية عن معاناة الأطفال في بلدها، حاضرت كثيراً حول ظروفهم، وقبل أن تصدر السيرة الذاتية كانت تسجّل في الصحف والمدوّنات آراءها. أجرى تلفزيون بلادها فيلماً عنها بعنوان "طفولتي في جهنم"، وفيه تروي لماذا اختارت الدفاع عن الأطفال؛ فهي التي عاشت "حالة الاغتصاب على يد الأب البديل، زوج الأم التي لم تكن كما يجب".

فقدت أخاها، رينيه، انتحاراً، ولم تستطع البقاء في علاقة زواج دائمة، حتى ارتبطت بزوجها الحالي، ميكائيل ليندهولم، الآتي من طبقة النخبة الدنماركية. تقول:" لو تركت نفسي لفحص علمي فأنا متأكدة بأني شخص يعاني من أعراض اضطراب الإجهاد والصدمات. كهؤلاء الآتين من الحروب الذين يتلفّتون دائماً لمشاهدة القنّاص يعتلي الأسقف قبل أن يطلق عليهم الرصاص. في العامين الماضيين فقط جعلتني العلاقة بميكائيل أهدأ قليلاً".

رفضت زورنيغ أن تكون كأمّها "عرضة للعنف والعيش في ذات الدورة"، وبناتها اليوم يقلن:" والدتنا كسرت ذلك الإرث، ونحن لن نعيشه". تلك الطفولة جعلت انفجار الإبداع عند زورنيغ يأخذ هذا المنحى المتسارع في التعبير عمّا يدور حولها في واقع بلادها. أسّست قبل أربعة أعوام مع زوجها ليندهولم "بيت زورنيغ للأطفال" كمأوى وعلاج لهؤلاء الذين يتعرّضون للصدمات في منزل أهاليهم، على خلفية تجربتها التي أوصلتها إلى كل الغضب الذي تقوله في كتاباتها وندواتها.

العام الماضي، تجوّلت زورنيغ في مدن الدنمارك تحث الفقراء وأصحاب الإعاقات والمهمّشين بالخروج لممارسة حق التصويت "ليصل صوتكم"، وأنفقت على ذلك المشروع ما يقارب مليون كرونا دنماركية.

المساهمون