ليت البرادعي لم يتكلّم

07 نوفمبر 2016

أثبت البرادعي أنه ليس رجل دولة (19/1/2016/فرانس برس)

+ الخط -
بعد إطلالاتٍ قصيرةٍ متقطعةٍ دامت ثلاث سنوات، أصدر محمد البرادعي بياناً مُطولاً يتعلق بالفترة من 3 يوليو/ تموز 2013، حين جرى عزل الجيش المصري الرئيس محمد مرسي واحتجازه، إلى 14 أغسطس/ آب يوم فض اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة. أثار بيان البرادعي ردود فعل متباينة، وجدلاً واسعاً، على "فيسبوك" و"تويتر".
ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء، لفهم سبب إصدار البرادعي بيانه قبل 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بأيام، حيث تسود المجتمعَ المصري حالةُ ترقب لما قد تؤول إليه الأوضاع في ذلك اليوم. ووجد البرادعي (أو من يُشيرون) أنه يحتاج إلى إبراء ذمته مما شهدته مصر في تلك الفترة التي تباينت خلالها المواقف وتمايز الرجال. لذا، جاء بيان البرادعي مشبعاً بالشخصنة، إذ إن الدافع الأساسي لإصداره هو الحرص على تنظيف السمعة، وليس توضيح الحقائق للمصريين. فلو كان الدافع وطنياً، لا شخصياً، لبادر بمصارحة الشعب بما يجري في وقته، لكنه لم يفعل، بل لم يفعل ذلك بعدها بأسابيع، أو أشهر، أو حتى بعد عام أو عامين، بل ولا ثلاثة أعوام. فقد مرت ذكرى 3 يوليو وبعدها 14 أغسطس ثلاث مرات متتالية، والبرادعي على وضعه قابع خلف "تويتر". والواقع أن الرجل اعترف، في بيانه، بذاتية دوافعه، حيث قال صراحة إن بيانه للرد على الهجوم الإعلامي عليه. وتطرّق البيان إلى موقفه من العراق، عندما كان مديراً لوكالة الطاقة الذرية، وهو أمر خارج السياق المصري، وشخصي بامتياز.
تناول محمد البرادعي ما حدث، وما كان يظن وما فوجئ به، وأغفل ما قال هو أو فعل، حين فوجئ بغير ما كان يتوقعه، بل وما كان متفقاً عليه. وبالطبع، تجنب الاعتراف بأنه لم يفعل شيئاً، ولزم الصمت فقط.
غالط البرادعي المصريين، فركّز، في بيانه، على الوازع الأخلاقي لديه في رفض استخدام القوة. ولم يوضح أين وكيف ومتى كان هذا "الرفض"، فيبدو أن أخلاقه التي دفعته إلى الرفض في الغرف المغلقة لم تدفعه إلى إعلان ذلك الرفض على الملأ وكشف ما جرى، ما يجعل استقالته في جوهرها هروباً، لا اعتراضاً، وإلا لكان الاعتراض علنياً، وفي حينه.
ثمّة فارق شاسع بين الاكتفاء بعدم المشاركة في جريمةٍ، سواء بالتخطيط أو الإقرار أو التنفيذ، وعدم السكوت عنها، وفضح مرتكبيها وتحميلهم مسؤوليتها بشكل واضح وعلني. تجسّد الحالة الأخيرة فقط الرفض، وتؤكد أخلاقية التصرف ونبالة الموقف، أما الأولى فتعكس جُبن التصرف، و"لا أخلاقية" الدوافع، بدليل أن البرادعي، في سياق تبريره الاستقالة، أقرّ بأن أسبابها لم تكن أخلاقيةً فقط، وإنما أيضاً سياسية، لوجود حلولٍ متفق عليها، كانت كفيلةً بحقن الدماء، والحفاظ على آلاف الأرواح. بمد الخط على استقامته، فإن الاستقالة كانت، بالمنظور الأخلاقي، تبرؤا من ذنب أو خطيئة، وبالمنظور السياسي انسحاباً انهزامياً. ليس من مناظرةٍ انتخابيةٍ، أو استحقاقٍ مهم، في مسيرة سياسي أو شخصية عامة، وإنما من لحظة أزمةٍ، ربما هي الأخطر في عمر وطن.
للإنصاف، لم يخلُ بيان البرادعي من الصراحة، فقد أكد أن "3 يوليو" خالف الإطار الذي استندت إليه عملية "30 يونيو" في توافقاتها وتنسيقاتها وتحضيراتها المسبقة. والذي تبلور شعبياً في مطالب شعبية واضحة ومحدّدة بانتخابات رئاسية مبكرة أو استفتاء، غير أنه فوجئ باحتجاز محمد مرسي، وبخريطة طريق مختلفة "أعدت على عجل"، حسب وصفه. ويزداد السؤال الجوهري إلحاحاً، لماذا صمت؟
أثبت محمد البرادعي مراراً أنه ليس رجل دولة، ولا مُناضلاً سياسياً، ولم يدَّع ذلك. لكنه يريد العودة إلى المشهد في لحظةٍ مهمة. وسيصعّد انتقاداته، ويرفع معدل تغريداته حتى يوم الجمعة المقبل، ظناً أن بيانه حسّن صورته. لكن البيان يُدين صاحبه أكثر مما يُبرئه، بعد أن خذل مصر والمصريين، بالمشاركة ثم الصمت، في لحظةٍ تاريخية أهم من 11/11.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.