وشاحٌ غرناطي
لهذه العيون التي تحرثُ شوارع المدينة
للعري الأبدي فيها
للسماء المكسورة في أرضها
لليمون الساطع في غربتها...
شالٌ أصفر أخضر
بعد هذه الأشجار التي ارتديتُها حزناً
والأنهار التي حدّقتُ بها شوقاً
سأذهبُ
لي مكان هنا لأفتتحَ الهواء
وأعرف سرَّ نبضي.
غرناطة بيتُ كلّ مشاعري
وأنا قلمٌ بلا دفتر.
ما عرّفتُ ذاتي سوى بأَضدادها
تمتحنني البراهينُ والآلامُ
وأعرفُ مَنْ المستحيل،
أنا وحدي...تغيبُ عني جموعٌ
تكدّستْ في صمتي.
ينشقُّ القلب إلى ضواح فقيرةٍ من الدورانِ حول نفسي
هذهِ ميادينٌ تصدحُ بأجراسِ قلقي.
أصعدُ الدرب المؤدّي إلى الدارِ الحمراء
يَسْوَدُّ كبدي من جماعِ التاريخ بالعواطف
روحي أسئلةٌ تتجدّد
متى خلاصي ومتى سأُولَد؟
غرناطةٌ كبرى
تحملُ الدنيا فوقَ جناحيها غناءً
سماءٌ خطّتها دلالات
تتساقطُ
غروبٌ يتمايلُ كالقطط في عيونِ العشاق
دموعي بدونها على وجهي
سرابٌ وندى وماء
حرارةُ الأرض إذ تغلي بجسدي،
أحلمُ بلحظةِ لقاءٍ حميميّ مع الشمس خلف التلال:
ليتني نقطة
في تلكَ الفسيفساء.
■ ■ ■
منفى بدون نفي
أتمسّكُ بما أرى حين أرى فيه رؤىً.
هذا هو الطريق: طويلٌ ومتعرّجٌ وكثيرُ الإيماءات،
أحسبني أعرفهُ. بعدَ هذهِ السموات المترادفة، سألتقي
بسمائي.
وإنّي ممن يبحثون عن ظواهر في تجاربهم
ليسمّوها كما تسمّيهم.
أسمّي تأمّلي في الحياة ومنعطفاتها:
حديثاً مفتوحاً مع الوقتِ الصامت.
أُسمّي الانبهار عند الوصول إلى تلّةٍ تطلُّ على بحرٍ فسيح:
روحاً تحنُّ إلى الالتئامِ بنفسها وعيوناً ترنو للخلاص.
أسمّي تعب الوجود عند الظهيرة والنوم الذي يدبُّ في النفس هجرة منها:
الأنا التي تشتاقُ إلى الموتِ وضدّها التي تكافحُ عبثاً من أجل الحياة.
أسمّي الناس الذين لا أودّ ملاقاتهم في وقتٍ ما:
ضجراً مزعجاً في القدر ووسوسات الكون في البشر
أسمي تردُّدُ اللغة عند حافةِ الجنون:
شعراً يحاولُ أن يكتمل.
وتبهرني دروبٌ صغيرةٌ يتدّلى من جدرانها وردٌ وتبدو كحنين وجهي،
قريبٌ من روحهِ، بعيدٌ عن نفسهِ.
تبهرني كلُّ الأصوات التي تجتمعُ بأصواتي وتعدّلُ مساراتها.
أيكفيني أنّي أرى ما لا يراني وأتبعهُ حتى يرى؟
منفىً لا يحتملُ النفيَ
منفايَ.
والبحرُ الذي أمامي بهيُّ الحضور
كاملُ المعنى
ما بهُ من حياة
كلّها حياتي.
أحيا هنا
كأني أمام الموتِ
حياة أخرى،
ومن حياتي موتٌ يفيضُ بالحياة.
أفكّرُ أنَّ صدايَ حُرٌّ بدوني، وصوري
أشدُّ حضوراً في الماءِ منّي.
أرى وجهي يراني
وأنا أتقطّعُ في الميادين
وَأُسبّحُ بحمدِ الورد
انبهاراً.
كلما انبعثتُ متُّ
وكلما متُّ أنبعثُ
هل هذا هو المنفى إلى الأبد؟
أنا الآن ورقةٌ تتساقطُ من علوٍ
وتسقطُ في عينَي عابر سبيل
كأن التاريخ دار قلبي
وأنا مسافرٌ حزين.
الترابُ الذي تحت قدمي
ترابٌ للأرض
أريدُ أنْ أضيء المدى بنوره.
ما يتراءى هناكَ من أطيافٍ
أغنيةٌ من السماء
أراكِ الآن، مثلك، أنا عطشان.
أستريح
أَسْبَحُ في بركة أوجاعي
علَّ هيامي يشفيني.
■ ■ ■
نظرة من الطائرة
منظرُ الغيوم على الجبال
يُدمي القلب
بياضٌ أُسطوري متجعّدٍ كجماجم الخيال
يسقطُ لهذا الحدِّ
متناثراً في وعاء البصيرة
كبلّور الهذيان
ولا شيء أقوى من البصيرة
وهي الحياة الأولى في العدم اللانهائي،
دواءٌ آدميّ الأصل
لكلِّ مكان وزمان
الآن لا سماء في السماء
بل دخانٌ من شظايا دموع
ولا رعد يُمَزّقُ ثوبَ الهواءِ
ويدخلُ في مساماتِ وادٍ عطشان
والأرضُ في غيبوبةٍ كبرى
تشقّقت أثداؤها من أطلال النسيان
وصار الحليبُ فيها ماء
يجري في البرّ سراباً متعباً
وفي البحر شطآناً وهذيان...
تصعدُ الطائرةُ أعلى وأعلى
وينخفضُ وزن الروح كلّما مسّتهُ الريح
وانصرفَ الوجدانُ،
كيف سنحيا هكذا، بعد هذا التجلّي؟
بدون حبلِ وريدٍ مع أمُّنا الباكيِة:
الأرض الخضراء من العمل
الأرض الحمراء من الألم
الأرض الصفراء من الأحلام
الأرض التي لا لون لها،
وجه الهباء بهاء.
وتسيرُ من وادٍ يسحقُ الهاوية
إلى تلالٍ لولبية عارية
وتتركُ صحراءَ في الوسط
بين الأرض والسماء
هي هكذا
طائرةٌ بدون حذاء أو ناصية.
تتهادى بأجنحتها
وما هي بطيرٍ
وما هي ببسمة ريحٍ
أو نكتة مطر قد انفجر.
من لندن إلى باريس
ومن النرويج إلى أفريقيا
من بقع الثلج والسواد
إلى وجوه القمح وشراسةِ الرماد.
كيفَ سنحرسُ أشلاءنا المتناثرة على الأرضِ
كيف ننسى مهد نظرتنا الأولى ونحن هنا،
ضحايا علوٍ كاذب؟
ونحن هنا
بين الأبديِّة والآن: كلُّ شيء ينتظر،
وهناك ما هو أقلُّ من ذرةٍ
وأصغرُ من نقطةِ ماءٍ في عين ظمآن...
متى ستهبطُ؟
متى؟ لنعودَ إلى أعمالنا
أما حان لنا أن نلتقي بظلِّ الأم:
الأرض
لنقولَ لها بهدوء الظهيرة في أجنحة القطا: لا تقسي على من حلموا بغيركِ
سيعودون يوماً
ليشكروا ملحكِ على ما فيه من ضوءٍ
ويقولوا
كانت خطايانا أكبر من أن نرى،
كانت أحلامُنا أكبر من أن ننسى.
* شاعر وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن