ليبيا.. خطايا استراتيجيّة

09 اغسطس 2014

آثار قصف مطار طرابلس الدولي (17يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


إلى أين تتجه ليبيا؟ سؤال أكثر من وجيه، وأكثر من ملحّ. لكن، لا أحد يملك الإجابة عليه، نظراً للوضع المعقّد، ولصعوبة التنبّؤ بما ستؤول إليه الأمور. وبما أن محاولة التنبؤ بالمآل تستوجب فهم الحال، وبما أن فهم الحاضر يقتضي العودة إلى الماضي، لفهم أسباب المشهد الراهن، فالسؤال الأكثر إلحاحاً هو ما الذي جعل ليبيا تدخل في نفق سياسي مظلم، يبدو أنه يزداد تمدّداً، بمعنى ما هي الأسباب، بل الخطايا السياسية التي أدت إلى هذه الأوضاع المتردية، أمنياً وسياسياً.

لا يختلف اثنان في أن ليبيا تمثل، اليوم، نموذجاً متميّزاً للربيع العربي في نسخته المتعثرة. فانتفاضتها ضد النظام البائد اتّسمت بالتدخل العسكري الأجنبي، ما جعلها محلية المنشأ وأجنبية الأداء في جلّها، وهذا ما أفسد مسارها السياسي، بعد سقوط نظام معمر القذافي. هناك جملة من الخطايا الاستراتيجية ارتُكبت في أثناء الانتفاضة وبعدها، نحاول التوقف عند أهمها.

أول خطيئة استراتيجية ارتكبت هي الاعتماد على قوى أجنبية للتخلّص من نظام القذافي، ليس فقط لما للتدخل الأجنبي من تداعيات على استقلالية القرار الاستراتيجي للبلاد، وإنما لأن القوى المحلية الأكثر تنظيماً تستفيد منه أكثر من غيرها. فبعض كتائب الثوار الإسلامية التوجه هي الأكثر استفادة من تدخل حلف الناتو. والمثير أن الأزمة الليبية كانت مناسبة لتحالف ظرفي غريب الأطوار بين القوى الغربية وإرهابيين سابقين، وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. وهذا ما أعطى ثقلاً سياسياً وعسكرياً لجماعاتٍ، مارس بعضها الإرهاب في وقت سابق، وهي ترفض، الآن، كل شرعية خارج سلطتها. ومن ثم، فتطبيع وضع جماعات عسكرية في خضمّ الحرب الأهلية كانت خطيئة استراتيجية بكل المقاييس.

الخطيئة الثانية، وهي نتاج للأولى، تكمن في الفصل بين الذراعين، السياسية والعسكرية للانتفاضة ضد النظام، ما جعل السلطة السياسية، المتمثلة في المجلس الانتقالي، بدون ثقل على مجرى الأحداث العسكرية ميدانياً. حيث اتّضح، منذ البداية، أنه رهينة لكتائب الثوار التي هي أقرب إلى فسيفساء منها إلى وحداتٍ يمكن دمجها في سلك واحد (ما يفسر صراعات مسلحة بين الكتائب). فعوضاً من أن يستفيد المجلس الانتقالي من الدعم الخارجي لكبح جماح الكتائب، وفرض شرعيته عليها، لتكون له الكلمة الفصل، استفادت الكتائب من "شرعية" المجلس الانتقالي الدولية لفرض نفسها. وبما أن الذراع العسكرية للانتفاضة تغلبت على ذراعها السياسية، فإن معالم المشهد الليبي ما بعد القذافي ارتسمت قبل سقوط نظامه.

الخطيئة الثالثة هي الاعتقاد بأن الانتخابات كفيلة بضمان انتقال ديمقراطي سلس. فمرور أول انتخابات تعددية وحرة في تاريخ ليبيا بسلام، أعطت الانطباع بأن الليبيين تمكنوا من تجاوز أحد العقبات الأساسية، في المراحل الأولى، لبناء النظام الديمقراطي. بيد أن موازين القوى السياسية المنبثقة عن الانتخابات لا تتوافق وموازين القوى العسكرية في البلاد، والمتمثلة، أساساً، في كتائب الثوار بمختلف أطيافها وولاءاتها القبلية ـ الإقليمية المحلية.

الخطيئة الرابعة هي تدمير ما يشبه مؤسسات الدولة، لا سيما الجيش ومختلف فروع القطاع الأمني. وعلى الرغم من أن التجربة العراقية أثبتت أن المساس بالجيش، كمؤسسة، يجعل السلطة المنتخبة منكشفة تماماً أمام مختلف الجماعات والميليشيات، فإن الليبيين ارتكبوا الخطأ نفسه. فعوض الحفاظ على ما تبقى من الجيش، وتحصينه ليكون دعامة السلطة المنتخبة، لاستعادة احتكار الاستخدام الشرعي للقوة، تم تفكيك وتفتيت ما تبقى من الجيش. فلو تم نقل ولاء الجيش، وبسرعة، إلى السلطة المنتخبة، لتمكنت الأخيرة من التعامل مع الكتائب، وحتى مع قدماء الجيش الذين دخلوا معترك الصراع على السلطة، كما يحدث، الآن، مع مجموعة خليفة حفتر.

الخطيئة الخامسة تكمن في سَنّ قانون العزل السياسي على طريقة اجتثاث البعث في العراق، ما حرم حركات سياسية عديدة من كوادرها، فكان أن خسرت ليبيا الجديدة طاقات وكفاءات هي في أمسّ الحاجة إليها في هذا الظرف العسير والحساس. والملاحظ أن وجوهاً اقترنت بالانتفاضة الليبية، دولياً، أُقصيت بين عشية وضحاها من اللعبة السياسية، فزاد هذا من غلبة العسكري على المدني. وأصبحت قوى خارج البرلمان وميليشيات لها الكلمة الفصل في تحديد مسار البلاد ومصير العباد.

تشترك كل هذه الخطايا في إشكاليتين أساسيتين. أولاهما العلاقة بين العسكري والمدني، وكأن الانتفاضة التي اندلعت لإسقاط نظام القذافي تعيد إنتاج بعض سماته. وفي هذه النقطة، تشترك ليبيا مع مصر، على الرغم من اختلاف الأخيرة عن الأولى، لأن الدولة العميقة في مصر لم تزعزعها الانتفاضة التي قادت، في نهاية المطاف، إلى نوع من التغيير داخل النظام. أما في ليبيا، فإن النظام سقط، لكن الصورة لم تتضح بعد في ما يخص النظام الناشئ. وثانيتهما العلاقة بين المقدس والمدنّس. هكذا رسبت ليبيا، ومعها مصر، في الامتحان العسير نفسه الذي رسبت فيه الدول التسلطية العربية.

وتنطوي كل هذه الخطايا تحت خطيئة جامعة، متمثلة في عدم الإجماع حول طبيعة الحكم المنشود لما بعد الانتفاضة. فالاتفاق كان حول إسقاط نظام القذافي لا أكثر، وكأن التخلّص منه كان هدفاً بحد ذاته، وليس وسيلة لإقامة دولة ديمقراطية. فكانت الفتنة بعد إسقاطه. ولا يسعنا هنا إلا التذكير بتحليلٍ للرائد النهضوي، عبد الرحمن الكواكبي، "إنه يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد [لأنه] إذا كانت الغاية مبهمة في الأول، فلا بد من أن يقع الخلاف في الأخر (...)، والحاصل أن من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يُراد، ويمكن أن يُستبدل بها الاستبداد، وليس هذا بالأمر الهين..".