دخلت الأزمة الليبية خلال اليومين الماضيين، مرحلة أكثر تقدماً في إطار الصراع المكشوف بين الدول التي تقود حرباً بالوكالة على أراضيها، والمنخرطة سياسياً وعسكرياً فيها، مع شنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هجومه الثاني في غضون أسبوع على تركيا، واصفاً تدخلها في ليبيا بـ"الإجرامي"، ما استدعى رداً تركياً. هذه "الهستيريا" الفرنسية حول الدور التركي في ليبيا، الداعم لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً، والذي أدى إلى تراجع مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر عن مجمل الغرب الليبي، ترافق أيضاً مع مقال لوزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش في صحيفة "لو بوان" الفرنسية، في إطار الهجوم ذاته على أنقرة، حذر فيه من أن ليبيا هي من دون شك المنصة للتوسع "العثماني الجديد"، مطالباً المجتمع الدولي بالتحرك لمواجهة ذلك.
جاووش أوغلو: فرنسا تبذل الجهود لتعزيز الوجود الروسي في ليبيا
في موازاة ذلك، يشتد تسليط الضوء في الإعلام الغربي، وكذلك من قبل مسؤولين أميركيين، على التورط الروسي في ليبيا إلى جانب حفتر. وفيما انتقد ماكرون أول من أمس أيضاً نشاط مرتزقة "فاغنر" الروس في ليبيا، والذين كان لهم الدور الأكبر في تمكين حفتر من تشديد قبضته على حقل الشرارة النفطي، سلطت صحيفة "وول ستريت جورنال" ومجلة "فوربس" الضوء على المقاتلات الحربية الروسية في ليبيا. وتساءلت "فوربس" عما إذا كان المرتزقة الروس هم من يقودونها، فيما حذر مدير عمليات القوات الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" الجنرال برادفور غيريغ من خطورة ذلك وانتهاكه للقانون الدولي.
في هذه الأثناء، يواصل حفتر استخدام تكتيكاته الاستعراضية، وهذه المرة عبر ما سمي بتفويض القبائل لقيادته بإدارة شؤون الموانئ النفطية التي تقع تحت سيطرته، وتوكيلها التفاوض مع الأمم المتحدة لإعادة فتحها. ويفتح ذلك التساؤل مجدداً حول مدى الدعم الروسي لحفتر لإعادة إكسابه شرعية دولية عبر استحصاله على اعتراف دولي "نفطي"، قد يؤدي لاحقاً إلى فرض التقسيم كأمر واقع.
ودانت حكومة الوفاق أمس، تصريحات ماكرون، الذي يفترض أن يلتقي قريباً نظيره الروسي فلاديمير بوتين، كما رفضت السلطة في الغرب الليبي، مجدداً، أي مسعى للتفاوض. وعلّقت وزارة الخارجية الليبية، على تصريحات الرئيس الفرنسي الإثنين التي أدلى بها خلال لقائه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وقالت الوزارة إنها كانت تأمل أن يعلن ماكرون، رفضه لعدوان حفتر على طرابلس. وقال وزير الخارجية الليبي محمد طاهر سيالة، بحسب ما نقل عنه المتحدث باسمه محمد القبلاوي، عبر "تويتر"، إن حكومته كانت تأمل أن يصدر من ماكرون "تصريح يفيد برفضه لعدوان حفتر على العاصمة طرابلس منذ 14 شهراً، أي منذ الهجوم الغادر".
استضافت تونس اجتماعين بشأن عودة ضخ النفط في ليبيا بدعوة أميركية
وكان الرئيس الفرنسي قد اعتبر خلال لقائه نظيره التونسي قيس سعيّد، في باريس قبل أسبوع، أن تركيا تمارس في ليبيا "لعبة خطيرة" لا يمكن التسامح معها. وردت أنقرة بأن هذا الوصف "لا يمكن تفسيره سوى بأنه خسوف للعقل". وأول من أمس، جدد ماكرون هجومه على تركيا، متهماً إياها بنقل عدد كبير من المقاتلين الأجانب (لم يحدد هويتهم) إلى ليبيا. وقال في هذا الصدد "أظن أنها مسؤولية تاريخية وإجرامية لبلد يدعي أنه عضو في الناتو". كما انتقد بوتين بشأن نشاط مرتزقة "فاغنر" في ليبيا، نافياً دعم بلاده لحفتر. ورداً على ذلك، قال وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو أمس إن "الناتو" ينظر إلى روسيا كتهديد، إلا أن فرنسا الحليفة في "الناتو "تبذل الجهود لتعزيز الوجود الروسي في ليبيا.
إلى ذلك، أكد عضو المجلس الأعلى للدولة الليبي عبد الرحمن الشاطر، أنه "لا جدوى من المسار التفاوضي في البلاد، لأن الأحداث المؤلمة تجاوزت ذلك"، معتبراً عبر "تويتر"، أن الحاجة هي "لإعادة الأمانة للشعب الليبي باستفتاء على مشروع الدستور، وإجراء انتخابات للتحول إلى مرحلة التهدئة والاستقرار". من جهتها، أكدت وزارة الدفاع الليبية، أنها "لن تسمح للمرتزقة والعصابات الإجرامية باستغلال حقول النفط ومصادر الطاقة في البلاد".
وتؤشر التطورات المرتبطة بأزمة النفط الليبي، إلى محاولة حفتر العودة إلى المشهد، متكئاً على قاعدة محلية لإعادة التموضع، بدعم من حلفائه الإقليميين والدوليين، فيما أكدت مصادر ليبية متطابقة لـ"العربي الجديد"، على إصرار واشنطن على حلّ الخلافات بشأن إعادة فتح الموانئ النفطية.
وفي إطار مساعي حفتر لإبقاء ورقة النفط بيده، خرج ليل الإثنين - الثلاثاء، بيان مصور لمجموعة عرّفت عن نفسها باسم "حراك المدن والقبائل الليبية"، تقف أمام بوابة أحد الموانئ النفطية، لتعلن عن فتح حقول النفط و"تفويض القيادة العامة (قيادة حفتر) بالتواصل مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لإيجاد حلول لعدم وقوع إيرادات النفط في أيدي المليشيات الإرهابية"، وعلل هؤلاء قرارهم بفتح الحقول النفطية بأنه جاء على خلفية "ارتفاع أسعار المواد الغذائية عامة وازدياد سعر صرف الدولار وعدم قدرة الدولة على صرف مرتبات المواطنين". وعقب ذلك، قال المتحدث الرسمي باسم قيادة مليشيات حفتر، أحمد المسماري، إن هذه القيادة "تدرس حاليّاً إعلان الخطوات المقبلة في ما يتعلق بالتفويض الذي تلقته بما يتعلق بإدارة المنشآت النفطية". ونفى المسماري علاقة حفتر بغلق المنشآت النفطية "لأن الأمر كان يدار بشكل شعبي وقبلي، لكنه حالياً انتقل إلى إدارة القيادة".
وجاء بيانا المسماري و"القبائل" بعد كشف المؤسسة الوطنية للنفط عن مفاوضات بين حكومة الوفاق ودول إقليمية بإشراف أممي لاستئناف إنتاج النفط، مطالبة الدول الإقليمية برفع حصار النفط والسماح لها باستئناف عملها". وفي هذا الصدد، كشفت مصادر رفيعة، حكومية من طرابلس وبرلمانية من طبرق، استضافة تونس لاجتماعين بشأن عودة ضخ النفط بدعوة أميركية. واتفقت معلومات المصادر التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، على أن الدول الإقليمية التي أشار إليها بيان المؤسسة هي مصر والإمارات اللتان تقفان وراء قرار إقفال المنشآت النفطية من قبل القبائل منذ يناير الماضي، مشيرة إلى أنهما تلقتا دعوة أميركية بشأن التفاوض حول إعادة ضخ النفط، لكن هذه المفاوضات لم تسفر حتى الآن عن جديد بشأن إعادة هيكلة إدارة المؤسسة الوطنية للنفط وإمكانية نقل مقرها إلى مدينة سرت.
المسماري: إدارة موانئ النفط كانت تتم بشكل شعبي وقبلي، لكنها حالياً انتقلت إلى إدارة القيادة
وتعليقاً على ذلك، رأى الباحث السياسي الليبي، سعيد الجواشي، أن قرار القبائل بإعادة فتح حقول النفط وإحالة متابعته لحفتر، ليس إلا مناورة تقف وراءها أياد روسية، موضحاً في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "هذه القرارات استجابت لأوامر واشنطن بشأن إعادة فتح الحقول، لكن إحالة أمر التفاوض لقيادة حفتر جاءت للتغطية على الوجود الروسي في الحقول النفطية من جانب، ولبعث حفتر وقيادته مجدداً للواجهة".
وأمس، نشرت "وول ستريت جورنال"، تقريراً أكدت فيه إرسال روسيا تعزيزات إلى ليبيا لدعم حفتر. ولفتت الصحيفة إلى قيام طائرات شحن روسية برحلات ذهاب وإياب منتظمة بين قاعدة حميميم في سورية وليبيا، مشيرة إلى أن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أنها تقل جنوداً وأسلحة. كما تحدثت عن إرسال روسيا طائرات حربية من طراز "ميغ 29" وأنظمة رادار إلى ليبيا بين شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين. وقالت الصحيفة إن ذلك يأتي بعد سلسلة عمليات ضخ من قبل موسكو للعملات الليبية في الشرق الليبي، مؤكدة إرسال 100 طن من الأوراق النقدية الليبية إلى حفتر، مستندة على سجلات الجمارك الروسية.