لويزيانا... ولاية الفيضانات وصناعة الأفلام

11 يوليو 2019
+ الخط -
في ولاية لويزيانا، كانت المحطّة الأصعب في حياتي من خلال تنقلاتي المختلفة إلى الولايات المتحدة الأميركية. في هذه المحطّة، التي استوقفتني بعض الشيء بعد تعدد زياراتي إليها، وهي الولاية الثانية التي فضّلت الاستقرار فيها، وقضاء فترة زمنية غير محدودة، لا سيما وأنها كانت من بين اختياراتي لأنها كانت قريبة من ولاية الميسيسبي التي لا تبعد عنها أكثر من ساعة ونصف في السيارة، وكنتُ قد جئتها زائراً برفقة صديقي الحموي الذي سبق أن تعرّفت عليه في مطار علياء الدولي، في إحدى زياراتي للولايات المتحدة، وشاء القدر أن ألتقي به، واستقبلني في منزله بحضور زوجته الأميركية، وسنحت لي فرصة العمل معه في محلّه الذي يُديره برفقةِ عددٍ من العمّال، واستمرت فترة العلاقة أشهراً، وبعدها ساقتني قدماي في إحدى المرات إلى الذهاب معه بسيارته الخاصة إلى لويزيانا، وهناك كان للعرب حضورهم الكثيف، ما جعلني أترك الميسيسبي والإقامة في لويزيانا التي تتميّز بمناخ رطب شبه استوائي، حيث يسودها فصل صيف طويل حار ورطب، مقابل فصل شتاء قصير ومعتدل، وتشهد المنطقة تساقطات مطرية مهمّة طوال العام، خصوصاً في المناطق الجنوبية. كما تواجه الولاية باستمرار خطر الفيضانات، خصوصاً بين نهاية فصل الصيف وبداية الخريف، وباحتضانها لأكثر من خمسة آلاف مجرم في العالم.

وكنت قد غادرتها قبل هجوم إعصار كاترينا بشهر واحد في عام 2005، كما أنني قضيت ثلاثة أيام مع صديقي أبو حسن الفلسطيني، وكنا عشنا أياماً صعبة، والحمد لله تجاوزناها بسلام نتيجة هجوم إعصار آخر في عام 2008.

وتشتهر لويزيانا بالحي الفرنسي والمطاعم الفاخرة، وتأثرت بشدّة بخليط من الثقافات الفرنسية والإسبانية والأميركية الأصلية، فضلاً عن الأفريقية في القرن الثامن عشر، وهي مستعمرة فرنسية، احتلتها إسبانية لفترة قبل أن تعود إلى فرنسا، ثم اشترت الولايات المتحدة الأرض في عام 1803 وجلب إليها المستعمرون العديد من الأفارقة كعبيد في القرن الثامن عشر، ومن أهم القطاعات الإنتاجية فيها الصناعة والنفط والغاز، وتأتي لويزيانا في المرتبة الثالثة بعد كاليفورنيا ونيويورك في الإنتاج السمعي البصري وصناعة السينما.

ويتوزع غطاؤها النباتي بين الغابات والأراضي الزراعية، وتشكل مسطحاتها المائية الناجمة عن تراكمات ومستنقعات مجالاً اقتصادياً مهماً من خلال استغلال ثرواتها الطبيعية من النفط والخشب، بوفرة، بسبب الغابات التي تغطي ما نسبته 50 % من أراضيها، كما أنها تعتمد على قطاع ثروتها السمكية، وإنتاج اللحوم، والبطاطس والأرز وقصب السكر وزراعة القطن وفول الصويا.


في هذه الولاية، شاءت الظروف وأسعفتني بلقاء عدد من الأخوة العرب الذين مضى على إقامتهم سنوات مبعدة، ويعملون في محال تجارية تعود ملكية أغلبها لهم، وهذا ما يعني استقرارهم مع أسرهم وأبنائهم الذين ولدوا فيها وها هم اليوم يتسابقون للتعلّم والدراسة في جامعاتها، وحققوا امتيازات نخبوية في التفوّق، ونجحوا نجاحاً مبهراً، ما لفت نظر الأميركان إليهم، وما هو معروف عن العرب، ومدى نضجهم والذكاء الذي يميّزهم عن غيرهم، وتشبّعهم في العمل الذي يقومون فيه وانخراطهم به.

وكانت معرفتي بهم تقتصر على عدد محدود منهم، وبعد مضي فترة زمنية في الإقامة فيها كوّنت علاقات جيدة مع أعداد كثيرة منهم وأغلبهم من الأخوة الفلسطينيين الذين يقدّسون قيمة العمل، ويبذلون طاقة غير عادية حيال ما يقومون فيه، وتنافساً شريفاً بين بعضهم البعض، وهذا ما جعل الأغلبية منهم لها حضورها ومكانتها الخاصة، والكثير منهم رسم طريقاً من الاجتهاد والمستقبل ما يعني تحقيقهم مزيدا من ألوان النجاح، كل في مجال عمله.

ومن بين الشباب الذين سبق أن تعرّفت إليهم، وأثّروا في حياتي، أبو العبد، وهو من مدينة رام الله الفلسطينية، وأبنائه المهذبين، بالإضافة إلى أبو الأمير الرجل المثالي صاحب الرؤية والأخلاق الطيبة، وهو يحاورك بكل شيء ويطرح أفكاره بكل لباقة، ويُبهرك بثقافته الواسعة وبنظراته الثاقبة. سمح، شديد التواضع، وسخي في عطائه إلى حد الجنون، فضلاً عن أخ كريم، ومن ذوي الأخلاق الحميدة واسمه عبد الحميد.

أبو العبد، صاحب المطعم العربي الأكثر شهرةً فيها، وهو الذي كان فيما سبق يشغل مطعماً في فرنسا لأكثر من عشر سنوات، ففضل القدوم إلى لويزيانا والعيش فيها مع أقاربه وأصدقائه، وبحضور أولاده الذين يمثلون بالنسبة له جانباً من الأصالة العربية، والصدق في تعاملهم، فضلا بزوجته، أم العبد، التي تمثل أخواتنا الفلسطينيات في أنوثتها الطاغية، وعشقها لفلسطين وأهلها، الكريمة في تعاملها وفي إكرام الضيف، وهذا ما ينطبق على زوجها الرجل الهادئ الطباع، المحبّ لفعل الخير، الكريم في ترفّعه وفي أخلاقه.

أما أبو الأمير، الرجل الثاني الذي تعرّفت إليه، فهو مثال في احترام الأصدقاء والترحيب بهم، وتقديم ما لذّ وطاب لهم لأجل خاطر عيونهم، وهم طالما يتوافدون إلى محلّه التجاري، الذي يعمل فيه عبد الحميد الأخ الفلسطيني الذي سبق أن تعرّفت إليه.

أبو محمد، إنسان فيه من طبائع العرب ما تكفي. البساطة، الصدق، الوفاء، النبل وأكثر ما شدّني إليه روحه الطيبة، واحترامه للجميع، وتقديم الخدمة لأيّ كان مهما كلفه ذلك من وجهد ووقت ومال!

البحث عن العمل، وإن توافر، هذا يُحيجك إلى امتلاك سيارة، والسيارة تحتاج إلى شهادة سواقة، حتى تتمكن من قيادتها، وهنا المشكلة الكبرى..

وكنتُ أختصر كل ذلك بالتقدم إلى الجهات الرسمية في بلدي قبل استعدادي للسفر لأجل الحصول على رخصة سوق دولية، يكون لها نفعها إلى حد ما حتى تسنح لي الفرصة المناسبة إلى أن أتقدم بطلب للحصول على رخصة السوق الأميركية.

كانت مشكلة السيارة واقتنائها، بلا شك، فيها صعوبة بالغة بالنسبة لي، فالحلول كانت مؤاتية، ولكن الخوض في تجربة قيادة السيارة في بلد مَهيب ومرعب مثال أميركا يُخيفني رغم وضوح شارات المرور، وبشكل لافت، ولا تخفى على أحد، وهي موزعة بشكل دقيق ومتقن في الطرق الرئيسة وفي شوارعها العامّة، ما يتطلب من سائق السيارة المعرفة التامّة بالاتجاهات، وما هو مسموح من عدمه في تجاوز تلك الشارة، أو اللوحة المرورية من عدمها، وإنما هذا يتطلب منك الحذر الشديد تلافياً للوقوع في مطب ما يعني تسجيل مخالفة مرورية قد تدفع ثمنها توقيفك وراء القضبان وغرف السجن المظلمة، ودفع ما يستوجب من المال لقاء فكّ احتجازك!

ظللت دائم البحث عن عمل لفترة من الزمن دونما فائدة، وإن توافر فإنني سأضطر إلى قيادة السيارة لمسافات طويلة، وفي هذا خطورة كبيرة بالنسبة لي، والسبب هو السرعات الكبيرة التي يقود بها الأميركي سيارته، وأغلبها حديثة الصنع، وحجمها كبير ومن طراز معروف، أضف إلى ذلك مشكلة الأنفاق الموزعة، وما أكثرها، فضلاً عن غياب الإضاءة عن الطرق العامّة الرئيسة بصورةٍ جيدة، والمخارج التي تؤدي إلى الجهة المراد الوصول إليها..

وكنت في حينها قد تعرّفت إلى شخص اسمه عمّار، وهو شاب فلسطيني يعيش في بحبوحة. اتصلت به في أكثر من مرّة لقاء تأمين عمل لي في محلّه الضخم. اتصلت به لتحديد الزمان والمكان، واتفقنا على موعد محدد في صباح يوم تم تحديده، وكان موعدي معه في الساعة الثامنة صباحاً في محلّه.

في مكان إقامتي كنت أقضي معظم وقتي في مكان يبعد في السيارة عن محلّه حوالي خمس وأربعين دقيقة في السيارة، ما جعلني مضطراً إلى الذهاب إليه مع ساعات الصباح الأولى من يوم جمعة كما هو متفق بحثاً عن العمل، وإن كان الطريق الذي سأسلكه خطرا للغاية، وأنا القادم الجديد إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولم يسبق لي فيها من ذي قبل قيادة السيارة، في طرقها المهيبة الواسعة، وإن كانت شارات المرور فيها لا تحتاج إلى كثير من الخبرة.

سلكت الطريق المؤدية إليه في الساعة السابعة إلا ربعاً صباحاً، بعد أن ركبت سيارتي هوندا ــ سيفيك الفضية اللون واتجهت إلى حيث محل عامر، وبعد أن تجاوزت أحد مخارج الجسور الرئيسة الضخمة في مدينة نيو أورلينز المؤدية إلى الطريق الرئيسة وبسرعة لا تتجاوز في حدها الأعلى أربعين كيلومتراً في الساعة، وبعد أن استقرت سيارتي في إحدى حارات الطريق الست المرسومة بعناية، أخذت أقصى اليمين تلافياً لحدوث أيّ اصطدام مع أحد، وأنا في هذه الحالة أشار إليَّ أحد السائقين بأن إحدى سيارات البوليس تسير خلفي مباشرةً، وما عليَّ إلا أن أقف وبحذر، وهذا ما كنت أخاف من أن يحدث!

استمريت بعض الوقت أسير بسيارتي مستهزئاً وغير مبالٍ بسيارة الشرطة التي تشير إليَّ بأضوائها الزرقاء بالتوقف، ولم أعلم أنَّ الشرطي يقصدني أنا، رغم أنني لم أخرج عن قواعد المرور ولم أتجاوز إشارة ضوئية، وسرعتي عادية جداً لم تتجاوز حدودها التي تخضع لوقوع المخالفة أو حتى التنبيه!

ألزمت أقصى يمين الطريق وأوقفت سيارتي، وإذا به يهجم عليَّ وأنزلني من السيارة، بعد أن ركلني على ساقي ووقعت أرضاً على ركبتي وأصبت في حينها إصابة خفيفة إلا أنها آلمتني بشدّة. قيّد يديّ بالأصفاد، واتصل بسيدة عربية للوقوف على مشكلتي، ولم أفهم منها السبب المباشر لموقف الشرطي مني، في هذه الحالة وبأقل من دقائق وصلت أكثر من خمس سيارات من الشرطة.

عجبت من خطورة موقفي، حاولت معرفة السبب وتفاصيل كل ذلك دونما فائدة. وحاول هو معرفة الكثير من التفاصيل عن هويتي وسبب زيارتي إلى أميركا، وبحث عن الأوراق في درج السيارة، ولم يكن لدي سوى رخصة السوق الدولية، والأوراق الخاصة بملكيتها.

أخذ الشرطي مني مفتاح السيارة، وأخذني في سيارته إلى أقرب مكان لمقسم الشرطة للتحقيق في الحادثة... وهناك تم تسليم ما لدي من أوراق، وأخذت لي الصور في مختلف الاتجاهات، وأدخلوني السجن الذي كان يضمّ عددا لا بأس به من السجناء. وبعد مضي أيام ثلاثة أخرجوني في ساعة متأخرة من الليل، بعد أن كنت تعرّفت إلى شاب عربي دخل السجن حديثاً بسبب مشاجرة حادّة مع شخص هجم عليه في المحل الذي يعمل فيه محاولاً سرقة محتواه!

في الساعة الثانية ليلاً أفْرج عني، ولم أُصدق أنني الآن حر طليق أمشي في الشارع كيفما شئت. الفرحة غلبتني، وظللت أمشي، بعد أن عرفت وجهتي إلى أن وصلت إلى مكان مطعم صديقي أبو العبد في الساعة الرابعة صباحاً، ودخلت من بابه الخلفي وأمضيت فيه بعض الوقت حتى حان موعد افتتاح المطعم، وشرحت في حينها لأبو العبد ما جرى لي، وأسباب فترة غيابي خلال تلك الفترة. وأخبرني بأن سيارتي مركونة في ساحة المطعم وقام بإحضارها شخصياً بمعرفة أحد أصدقائه خوفاً من احتجازها!

وقال لي إن سيارتي لو لم يقوموا بجرّها بواسطة سيارة صديقه في اليوم الذي تم توقيفي فيه فإن الشرطة ستلجأ إلى احتجازها بسبب فقدان المفتاح الخاص بها، وسيستوجب علي دفع مبلغ من المال لا يستهان به لإخراجها من كراج الحجز!

بعد الأيام الثلاثة التي تلت فترة الإفراج عني من السجن اتصل بي عامر صاحب المحل الذي كان ينتظرني فيه، وقلت له هو الآخر ما لدي من مبرر، إلا أنه اعتذر عن توافر العمل في الفترة الحالية، وأكد أنه سيؤمّن لي عدد ساعات عمل مناسبة يمكنها أن تغطي مصاريف إيجار البيت الذي أقيم فيه. في هذه الفترة حاولت أن أجد أيّ حل لمشكلة مفتاح السيارة الذي فقد حينما أخرجني الشرطي من سيارتي بعنف، ولم يخطر على بالي أنني سأكون في حيرة من أمري لمجرد خروجي من السجن، وبمحاولة جادّة من الأصدقاء تم الاتصال مع أحدهم ووعد بإحضار نسخة من المفتاح الأصلي الذي يعود للسيارة وهذا ما حدث بالفعل بعد أن دفعت مئتي دولار لقاء ذلك.

وبعد أن حلّت مشكلة سيارتي، اتصل بي عامر ووافق على تشغيلي معه، واستمريت حوالي أسبوعين، وبعدها اعتذر لي عن إكمال العمل معه لأسباب لم تكن مقنعة، وانتقلت بعدها إلى شالميت، وهي مدينة صغيرة تعود لـ "نيو أورلينز"، وبقيت فيها لأكثر من عام ونيّف، وقلّما كنت أستخدمُ السيارة في زياراتي القصيرة إلى الأصدقاء الذين جمعتني بهم الأيام، والتقيت بالأخ أبو محمد وأبو الأمير، وصاحب الفضل الكبير أبو العبد، وقضيت أياماً ولا أجمل في لويزيانا، التي ما زلت أذكر، وإلى اليوم، مشكلتي مع شرطة المدينة التي ظلمتني بتوقيفي في السجن لسبب لم أعرف ما هو مبرره، وبعد حضوري جلسات المحكمة التي استمرت لأكثر من شهرين تم السماح لي بالسفر إلى خارج الولايات المتحدة، في حال رغبت بذلك، وأشارت عليَّ القاضية التي حكمت في قضيتي على أنه من حقك رفع دعوى بحق الشرطي الذي أودعك السجن بدون مبرر لخطأ لم ندرك بعد مفاده. ألحّ عليّ صديق الطيّب أبو الأمير برفع دعوى قضائية حيال الشرطي الذي زجّ بي في السجن، إلا أنّني خالفت رأيه وطلبت منه الاكتفاء بما جرى لي، ولم أكن أطمع بشيء سوى العودة إلى بلدي معافى مطمئن البال.
دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.