لولا فسحة الأمل
هل نعيش زمن الجدب حقاً؟ هذا ما تقوله لوحة تشكيلية جميلة، غلب عليها اللون الرمادي بتدرجاته، أهدتها لي طالبة في كلية التربية الأساسية قبل أيام بهذا العنوان؛ "زمن الجدب".
ولأنني نفرت من العنوان المغرق في سوداويته، بالنسبة لصبية في بداية عشرينياتها، اقترحت عليها أن تغيّره إلى آخر، لكنها رفضت وكأنها تصرّ على رؤيتها السوداء للحياة التي تقدم لها شيئاً، ولو صغيرا يفرح قلبها، وفق تعبيرها، فقلت لها؛ ولا حتى الألوان؟ ولا حتى موهبتك اللافتة في الرسم؟ ولا حتى أسلوبك الموحي في قراءة قصائد محمود درويش؟ فابتسمت ومضت، كمن يحاول إحصاء مزيد من المباهج الخفية.
لا يليق زمن الجدب بالنساء ولا بالشعراء ولا بعشاق الحياة، ولا بالمؤمنين، بغض النظر عن ذلك الإيمان. لذلك، على كل هؤلاء دائماً، حتى لو كانت هذه الحياة تعاكسهم في خياراتهم الخاصة والعامة، وتعاندهم في أحلامهم التي تحققت، والتي لم تتحقق، العبث في الجيوب السرية لها، بين فترةٍ وأخرى، بحثاً عما يمكن أن يستدرج المطر، ويستجيب لمباهجهم المتمناة، لكي تجيء وتتضاعف وتنمو وتستطيل. عليهم الاستمرار في المحاولات تلو المحاولات، بلا مللٍ ولا يأس، ذلك أن القدر يحب المفاجآت، وليس على المتفائلين سوى استدراج المفاجآت الحلوة، وتجاهل المفاجآت المرة، حتى يستطيعوا أن يثبتوا أنهم جديرون، أكثر من غيرهم، بالفرح والبقاء قدر الإمكان، وبمختلف صور البقاء على هذه الأرض التي تستحق الحياة، فعلاً كما يقول أحد هؤلاء الحالمين الكبار في الشجن والحب والقصيد.
يعرف من حولي أنني أنتمي لفئة المفْرطين في التفاؤل، والمبالغين في رعاية شؤون الأمل، وقد تحصّنت ضد اليأس، حتى لم يعد له إليّ سبيل حتى الآن على الأقل. لا لقلة ما يستدعي اليأس، عادةً، كما قد يتوهم كثيرون. ولكن، لأنني لم أعد أرحب به، مثلما كنت أفعل قبل عبوري بوابة الخامسة والثلاثين من عمري بقليل من الإنجازات والكتب والأفراح والأسماء التي لا تنسى، والألحان المرتجلة العصية على النسيان، والذكريات التي تستحق التجاوز، ولا النسيان. وبكثير من الأوهام والحاجات والجراح والصدمات والأسئلة الصعبة والأحلام المستحيلة والحكايات التي ليست لها نهايات مناسبة والقصائد المكتوبة في دفاتر الغيب! ولم يكن أمامي، عندما أغلقت البوابة ورائي، سوى الاختيار جواباً نهائياً على سؤال الحياة المفتوح كجرح دامٍ ؛ إما اليأس والجدب طريقاً نحو الموت، أو الأمل والرواء طريقاً إلى الحياة، وقد اخترت، وأنا بكامل قواي البشرية، أن أضمد الجرح بالصبر والمحبة والجهد المستمر، فأختار الحياة.
يستغرب كثيرون ممن وقفوا على ظروف حياتي، وعشوائية منحنياتها الكثيرة صعودا وهبوطاً، والحفر التي امتلأت بها كل الشوارع التي عبرتها حتى اليوم، من قدرتي على الاحتفاظ بتوازني، وأنا أمشي وفقاً لتلك المنحنيات. ومن طريقتي في تجاهل الحفر التي تفاجئني، ما بين خطوة وأخرى، أو القفز فوقها أحياناً لإكمال المسير والمسيرة بثقةٍ نحو ذلك الضوء الوامض من بعيد، حتى إن مقربين لي يرون أن في تفاؤلي المفرط نوعاً من الغباء الذي يحجب الحقيقة.
أرفض هذا المنطق تماماً لا هرباً من صفة الغباء وحسب، بل أيضا لأنني أعيش الأمل، لا كخيار، بل كقرار حتمي، وكقدر نهائي، وكحقيقة كبرى أيضا.
هل هناك شيء أجمل من أن يكون قرارك وقدرك وحقيقتك في هذه الحياة هي الأمل؟
ما زال الوقت متسعاً لأمطار كثيرة، ويمكننا أن نعيش انتظاراتنا لها بشكل أجمل، كأن نسمي زمن الجدب بزمن انتظار المطر. هذا ليس مجرد احتيال لغوي، بل هو أساساً احتيال على منطق الزمن، بما نملك من أدواتٍ أهمها التفاؤل، وبما نملك من أحلام أهمها الأمل، وبما نملك من قدراتٍ أهمها العمل، وبما نملك من خياراتٍ أهمها الحب. فهل أجد هذا كله في لوحةٍ جديدةٍ، تهديني إياها صبية "التربية الأساسية"؟ أتمنى.