لوبان ومناظرة الرئاسيات.. استراتيجية الأراجيف

06 مايو 2017

هدوء ماكرون وتوتر لوبان في مناظرتهما (3/5/2017/Getty)

+ الخط -
إنها مناظرةٌ غير عادية في انتخابية غير عادية، فالرئاسيات الفرنسية الحالية تختلف عن سابقاتها على أكثر من صعيد. أولا، لم يترشح فيها الرئيس المنتهية ولايته إلى عهدة ثانية، وهذه سابقة في تاريخ الجمهورية الخامسة. ثانياً، إقصاء مرشحي الحزبين الكبيرين، الاشتراكي (الحاكم) والجمهوريين (يمين) في الدور الأول، وهذه أيضاً سابقة، ليعرف بذلك الحزب اليميني الإقصاء نفسه الذي لحق بالحزب الاشتراكي في رئاسيات 2002، لمّا أقصى جان ماري لوبان مرشح الجبهة الوطنية (يمين متطرّف) المرشح الاشتراكي. وبهذا، يقصى الحزب الاشتراكي في الدور الأول مرتين في ظرف 15 سنة. ثالثاً، نجاح مارين لوبان في اجتياز الدور الأول، سائرة على خطى أبيها. رابعاً، اجتاز إيمانويل ماكرون الدور الأول متقدّماً على مرشّحة اليمين المتطرّف، مشكلاً المفاجأة السياسية الكبرى في هذه الانتخابات. خامساً، انتقال مركز ثقل الناخبين الفرنسيين نحو الأجنحة المتطرّفة، وبشكل غير مسبوق، فلو جمعنا عدد الأصوات التي حصل عليها اليسار المتطرّف مجتمعاً (ما يقارب 22%) وتلك التي حصل عليها اليمين المتطرّف (21.3%) لوصلنا إلى ما مجموعه 43% من أصوات الناخبين. ولو أضفنا إليها التي حصل عليها مرشّح اليمين السيادي الذي تحالف مع لوبان تحسباً للدور الثاني، فإن نصيب الجناحين المتطرّفين يقارب 47% من أصوات الناخبين في الدور الأول. سادساً، ظهور وسطٍ من نوعٍ جديد، يجمع بين اجتماعية اليسار وليبرالية اليمين الجمهوري والمتمثل في ماكرون، وهو المرشّح الوحيد الذي دافع، وبقوة، عن الاتحاد الأوروبي، والذي التف حوله فرنسيون كثيرون، من الطبقة السياسية ورجال الأعمال وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى، ذات التوجهات الجمهورية والأوروبية والإنسانية، والمتفتحة على العالم. سابعاً، لأول مرة في تاريخ فرنسا، يصل فيها إلى الدور الثاني مرشحان يتعارض برنامجهما تعارضاً مطلقاً على أساسهما انقسمت فرنسا.
إذن، المشهد السياسي والانتخابي مختلف تماماً عما اعتادت عليه فرنسا، لاسيما هيمنة التعدّدية 
القطبية الحزبية، مع تداول اليسار الاشتراكي واليمين الجمهوري على السلطة منذ عقود. وبالتالي، من الطبيعي أن تكون المناظرة التلفزيونية غير عادية، وفي قطيعةٍ مع سابقاتها. إذ تابع مساء الأربعاء 3 أيار/ مايو ما يقارب 17 مليونا من المشاهدين في فرنسا مناظرة عنيفة، لا ترقى إلى المستوى المطلوب. ولا يجادل اثنان في أن هذه المناظرة، بين الفائزيْن في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إيمانويل ماكرون (وسط) ومارين لوبان (يمين متطرّف)، كانت عنيفة، نظراً لسلوك لوبان. كما لا يجادل اثنان، من غير أنصار المرشحيْن، بأن ماكرون خرج منتصراً. فعلى عكس لوبان، كان هادئاً ورزينا، وعلى دراية بملفاته، وعموماً دقيقاً في تصريحاته ومقترحات برنامجه. حيث أبدى درايةً بقضايا النقاش، وتحكّماً في مسائل دقيقة، أعطت الانطباع بأنه الأجدر بالرئاسة، ويليق بمقامها ويستجيب لشروطها.
مثل هذا الانطباع في غاية من الأهمية، لأن الأهم في المناظرات ليس طرح البرامج، وإنما التأكيد على من هو أهل بالرئاسة. ويمكن القول هنا إن لوبان خسرت هذا الرهان. فعنفها وعدم احترامها آداب النقاش وقلة حصافتها، جاهلةً أنه لكل مقام مقال، جعلها تخسر معركة الأهلية. ولا يمكن هنا حصر كل مضامين النقاش وأخطاء لوبان، لذا يكتفى بخمسة عناصر أساسية.
أولها، سارت لوبان على خطى أبيها واليمين المتطرّف عموماً، عاملةً على هدم برنامج الخصم، ومحاولة تضييق الخناق عليه، بضرب مقترحاته ومصداقيته، من خلال كلام شعبوي يخاطب شعر الجمهور، لاسيما الطبقات الشعبية، تجنباً لطرح برنامجها وتفصيله والدفاع عنه. وهذا ما جعلها تظهر وكأنها بدون برنامج، وجاهلةً المسائل الاقتصادية والسياسية الدقيقة.
ثانيها، مهاجمة شخص ماكرون بشكل عنيف، بدل طرح بدائل لبرنامجه الانتخابي، إذا جاءت تدخلاتها جوفاء متخبطة في شعاراتها الأيديولوجية المعتادة (كراهية الأجانب، معاداة أوروبا، معاداة المهاجرين والمسلمين...).
ثالثها، ارتكبت أخطاء عديدة بشأن بعض المعطيات والقضايا، كالتي تخص بيع شركات في
فرنسا ومسألة اليورو، ما يدل على عدم درايتها بالقضايا التي تخوض فيها.
رابعها، لجوؤها إلى إستراتيجية الأكاذيب، بعضها عن قصدٍ وبعضها الآخر عن جهل. فهدف الأكاذيب المقصودة زعزعة الخصم وضرب مصداقيته، بالتشويش على قناعات الناخبين، المستقرّة وغير المستقرة، من جهة، والتهرّب من النقاش، وطرح المقترحات والمحاججة من جهة ثانية. ومن غير المستبعد أن يكون مستشارو لوبان قد نصحوها بهذه الإستراتيجية، تجنباً لمواجهة ماكرون في الجوانب التقنية، لأنه أقوى منها، وعلى درايةٍ بها، بحكم تكوينه العلمي وتقلدّه منصب وزير الاقتصاد. بيد أن إستراتيجية الأراجيف والتضليل السياسي هذه لن تأتي أكلها، لأن وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية تقوم، خلال هذه الحملة الانتخابية، بتدقيق فوري في كل تصريحات المرشحين. وهذا ما جعل الناخب الفرنسي يطلع مباشرةً بعد انتهاء النقاش على أراجيف لوبان وتصريحاتها المغلوطة.
خامسها، اتضح أن لوبان تتوجه إلى ناخبيها وأنصارها المقتنعين بأفكارها، وليس لكل الفرنسيين. والحقيقة أنها في وضعٍ صعب للغاية، فإن هي خففت من تشدّدها لإقناع قطاعاتٍ واسعة من الناخبين الفرنسيين ستغضب ناخبيها المتشدّدين، وإن هي أبقت على تشدّدها فهي ترضي هؤلاء، ولا توسع من قاعدتها الانتخابية. واختارت، في نهاية المطاف، البديل الأول، ما يوحي بأنها مقتنعة بخسارتها يوم الأحد. لذا، فهي تحضّر لما بعد الرئاسيات، أي للانتخابات التشريعية التي سيجرى دورها الأول يوم 11 يونيو/ حزيران.
يبدو أن النقاش لم يقنع المتردّدين، لأن المناظرات لا تغير عموماً من موازين القوى بشكل تقلبها رأساً على عقب، لكنه بيَّن الفرق الشاسع بين قدرات (ومهارات) المرشحين وبرامجهما. وستكون الكلمة الفصل للناخبين الفرنسيين غدا الأحد.