لهذه الأرواح التائهة نهاية

22 يناير 2015
أرواحهم ما زالت تنشد إلى الميلاد الأكبر.. (Getty)
+ الخط -

حسناً.. يبدو أنه، وبعد أربع سنوات كاملة، لم تُجْدِ استراتيجية "كل واحد يشوف مصلحته"، نفعاً مع آلاف الأرواح التائهة بعد ثورة يناير، أو كما يسميهم إعلام ما بعد يونيو "أيتام 25 يناير".

طويت الصفحة، هكذا يحاولون إقناع أنفسهم بينما أرواحهم ما زالت تنشد إلى الميلاد الأكبر.. العيون التائهة.. هدير الميادين الأول.. الدخان المسيل للدموع والأحلام .. اللحظة التي اختلط فيها الخاص بالعام.. القصص الصغيرة بالقصة الكبرى.. الخيال البعيد بالمجال القريب.. الذات بالشارع.. والشارع بالدم.

ترك الكثيرون بلاد يناير بعدما عادت إليها بلاد يوليو.. سافروا هرباً بأنفسهم وبما تبقى من أيامهم الثمينة خارج المعتقلات.. نزحت أرواح يناير المضطربة.. المزدحمة بالصور والأحلام ودخان المعارك.. نزحت بأجسادها خارج بلادها وبأنفسها داخل أنفسها.. خرجت إلى منافي العالم الحارة والباردة.. بلعت مراراتها وساحت في أرض الله.. الدوحة.. إسطنبول.. نيويورك.. لندن.. عواصم ومنافٍ.. لا تفهمك.. لا تفسّر هذا القلق المشدود للنشأة الأولى.. للولادة من رحم لحظة..

للركض بين الموت والحياة.. للضحك من فرط التعب.. لانتظار الأخبار على رصيف بارد..

بينما بقي المنفيون في أرضهم يكتمون إيمانهم.. يسندون ما تبقى بالتغافل والتجاهل والاغتراب.. يلملم بعضهم بعضاً من نهش السلطة وتشفي الغريم العجوز.. يعيشون الانتظار.. انتظار السجن.. انتظار الخروج من السجن.. أن تخف الوطأة قليلاً.. ليتنفسوا.. ليروا.. ليأخذوا العزاء دون أن يتلفتوا.. ليعدوا الشهداء بلا تعجّل.. ينظرون في صورهم كما يجب.

ذهب البعض إلى إنهاء مهزلة الحياة بأكملها.. إلى التخلص من هذه الوجد المكدّس بالهول والبشاعة ونشيج المظاليم.. آخرون قرروا الاستمرار.. الدعس على الذكريات أفضل من الغرق فيها.. تجميد الملحمة لأجلٍ غير مسمى.. السعي وراء شيء شخصي.. لكنهم، وبعد وقت قصير، أدركوا أنه لا شيء شخصي.. لا شيء بمعزل عمّا حدث.. كل شيء يدور ويتلَّوى ليدخل من ثقب الإبرة نفسه.. من الذكرى التي لا تريد ان تلتئم أو تمر.

لا مفرّ من الذكرى.. لقد نبت في هذه الأرض شيء ليس من جنسها.. ليس من طبيعة أهلها.. صحيح أنه انحبس في أرضها.. وتشكل في شوارعها، لكنه أصبح وطناً في حد ذاته.. ينتمي إلينا وننتمي إليه.. إلى هذا الشيء الذي انفجر في وجهنا فجأة واستحوذ على عقولنا وتعشَّق مصائرنا.. منه وإليه نهرب.. وعلى حافته ندور ونغترب..

لا مفر من الذكرى.. ينكر العقل كل هذا.. ينكر السذاجة والمراهقة.. التلاعب الذي حدث بنا جميعاً.. الخِفّة التي مارسنا بها كل شيء.. الفرص المهدرة.. الضمائر الهشّة.. الهوس الأيديولوجي.. المتاجرة بالدماء.. العهد الذي قطعنا ثم قطّعناه.. لكن الذكرى لا تريد أن تمر..

لقد أتينا من عوالم مختلفة.. وتواريخ مختلفة.. أخذنا أشواطنا الثمانية عشر.. فمسَّنا هذا الجنون.. وعبثاً نحاول العودة إلى أماكننا.. لكن هذا الجنون لا يهدأ.. لا يرضخ.. يشدّنا من آلاف الأميال وينزع أرواحنا نزعاً إليه..

لا طاقة لنا اليوم بهذا.. لا علاج لهذا الإدمان.. ولا مفر من هذه الخَرَق.. لقد تقدَّر لنا هذا القدر بلا مفر.. بلا راحة.. بلا ضحكة صافية واحدة.. إننا على موعد ما قد يكون قريباً.. وقد لا يكون.. لكننا لن نعود كما كنا.. لن ننام ليلة واحدة كتلك التي نمناها من قبل..

لهذه الأرواح التائهة نهاية.. لهذه الأرواح التائهة موعد.. لا شيء كهذا ينسى.. لا شيء كهذا يموت..


* مصر
@MohamedRasheady

المساهمون