لماذا ظل "حراك الريف" المغربي مستمرّاً؟

19 يوليو 2017
+ الخط -
لم يعرف المغرب، في تاريخه المعاصر، حراكاً شعبياً بمثل الزخم الذي يعرف "حراك الريف" المستمر في أقصى شمال البلاد منذ أكثر من ثمانية أشهر. وحتى في سنوات عنفوان الثورات الشعبية اليسارية أو الإسلامية في العالم، لم تشهد البلاد هبة شعبية مثل هذه التي ظهرت في مدن منطقة الريف وقراها. وفي عز الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب عام 2011، بتأثير من رياح "الربيع العربي"، لم يكن لتظاهراته ومسيراته كل هذا الزخم المتزايد الذي يشهده "حراك الريف".
فبعد موجة الاعتقالات التي طاولت أكثر من 189 ناشطاً، والحملات التي واجهت بها السلطات المتظاهرين في مناطق الريف، ومدن أخرى كبرى، كالرباط والدار البيضاء، تجددت الاحتجاجات، نهاية الأسبوع الماضي، وزاد عدد المنخرطين فيها، بل توحدت صفوف المحتجين الذين أصدروا بياناً يدعون فيه إلى مسيرة مليونية يوم 20 يوليو/ تموز الجاري، في ذكرى معركة أنوال التي انتصر فيها مجاهدو الريف، بزعامة عبد الكريم الخطابي، في عشرينيات القرن الماضي، على جيش الاحتلال الإسباني.
تحولت احتجاجات الريف إلى ظاهرة، وحالة سوسيولوجية، تستحق التوقف عندها لدراستها وتحليلها، فهي استفادت من التراكم التاريخي للاحتجاجات السلمية في العالم، ومن زخم الحركة الاحتجاجية في المغرب الذي لم يتوقف منذ استقلال المغرب. وفي كل مرة كان يأخذ شكلاً مبدعاً تجاوز حدود البلاد. ولا يخفى، اليوم، أن النواة الصلبة التي قام عليها "حراك الريف"
هي الحركة الاحتجاجية التي أسسها الخريجون العاطلون عن العمل الذين ظهروا، منذ تسعينيات القرن الماضي، في أكثر من مدينة مغربية، حركة احتجاجية منظمة ومؤطرة، وفي الوقت نفسه، مستلقة وسلمية، ترفع مطالب اجتماعية، لكن لها نفس سياسي لا يمكن تجاهله.
قراءة "حراك الريف" لمعرفة سبب استمراره كل هذه الشهور بالزخم نفسه الذي ظهر به منذ اليوم الأول، يستحق وقفة مطولة. ولكن، يمكن رصد عدة عناصر أعطت لهذا الحراك قوته وصيته الذي تجاوز حدود المغرب.
الأول، هو السلمية ونبذ العنف. منذ بداية احتجاجات منطقة الريف، حمل المشاركون فيها شعاراتٍ سلمية، وكان أحد أكثر الشعارات الذي يردّده المتظاهرون كلما تعرّضوا لقمع أو محاصرة قوات الأمن هو "سلمية سلمية.. لا حجرة لا جنوية"، أي بدون استعمال الحجر أو السكين، في إشارةٍ رمزيةٍ إلى الحرص على الابتعاد عن كل أشكال العنف والاستفزاز. وفي أكثر من مسيرة داخل مدن الريف الكبرى، كان النشطاء ينظمون سلاسل بشرية لحماية الممتلكات العمومية وسيارات الشرطة. وفي نهاية كل مسيرة احتجاجية، يقوم آخرون بتنظيف الشوارع والأزقة في مظاهر حضارية راقية. وقد استمر طابع السلمية ومازال، على الرغم من مرور أكثر من ثمانية أشهر على استمرار الاحتجاجات، وعلى الرغم من موجة الاعتقالات والملاحقات التي ما زالت تطارد نشطاء كثيرين، فالحراك أدرك، منذ اليوم الأول، أن سر قوته يكمن في سلمية احتجاجاته ونبذه العنف.
الثاني، مطالب اجتماعية محضة. كانت أحد عناصر قوة "حراك الريف" رفعه مطالب اجتماعية محضة، وبسيطة بساطة أهله، من قبيل مطلب بناء مستشفى متخصص في معالجة أمراض السرطان في منطقةٍ تسجل سنوياً أكبر نسبة من الإصابات بهذا الداء الفتاك في المغرب، ومطلب بناء نواة جامعية لأبناء المنطقة الذين يضطرون للسفر بعيداً من أجل إتمام دراساتهم الجامعية. وأخيراً مطلب جماعي متمثل في إيجاد فرص للشغل لشباب المنطقة العاطلين، وغالباً ما كان يتم صياغة هذا المطلب في صيغة ملتمس، وليس بوصفه حقاً يقرّه الدستور المغربي، وتفرضه حقوق المواطنة.
الثالث، غياب التأطير السياسي. لم يحمل المتظاهرون، منذ اليوم الأول، الذي قرّروا فيه النزول تلقائياً إلى الشارع، عقب مقتل بائع سمك من مدينتهم في ظروف مأساوية، أي لونٍ سياسي. وعلى طول مسار احتجاجهم، وضعوا مسافة فاصلة بينهم وبين جميع الأحزاب السياسية التي يصفونها بـ "الدكاكين السياسية"، ورفضوا الانضواء تحت راية النقابات المهنية. وأكثر من ذلك، حرصوا على أن لا يحمل خطابهم أو شعاراتهم أية مطالب ذات نفحة سياسية.
الرابع، الإبداع في أشكال التظاهر والاحتجاج. منذ أن بدأت الاحتجاجات في منطقة الريف،
أبهرت العالم بأشكالها النضالية المبدعة من مسيرات ووقفات واعتصامات وإضرابات وعصيان مدني. وعندما تعرّض المحتجون للقمع في الشوارع نهاراً، نقلوا احتجاجاتهم إلى الليل، وفي كل مرة كانوا يبدعون فيها، مستعملين أضواء الهواتف النقالة، والضرب على الطناجر (المستوحاة من تجارب الاحتجاجات في أميركا اللاتينية)، والصعود إلى أسطح المنازل ليلاً وترديد الشعارات (في تقليد لتجربة الثورة الإيرانية). وأخيراً "الطنطنة"، وهو أسلوب جديد ابتدعه نشطاء الريف، ويتمثل في الضرب على الأواني ليلاً من أعلى أسطح المنازل ومن النوافذ والشرفات، حتى يتردد صدى "الطنطنة" في جميع أرجاء الحي والمدينة. أما الشكل النضالي الجديد الذي سيبقى خاصاً بحراك الريف فهو قرار نشطائه نقل احتجاجاتهم إلى الشواطئ التي لاحقتهم فيها قوات الأمن، ما أعطى صوراً سوريالية لعناصر من الأمن بكامل عدتهم الميدانية، يغوصون بأحذيتهم الثقيلة في الرمال المبللة، وهم يحاصرون الشواطئ، ويطاردون المحتجين المحمولين على أمواج البحر.
العنصر الخامس، الصمود والتحدي والاستعداد للتضحية. إن أحد أهم عناصر قوة احتجاجات "حراك الريف" هو الإصرار على الاستمرار في النضال والصمود، حتى النهاية، بالعزيمة والقوة نفسها، والاستعداد دائماً للتضحية، فكلما اعتقلت السلطات من يسميهم الإعلام "قادة الحراك" يولد قادة جدد. ما نجح فيه قادة الحراك الحقيقيون هو إعطاء النموذج للآخرين. لذلك كان زعيم الحراك وأيقونته، المعتقل ناصر الزفزافي، في آخر كل نشاط احتجاجي، عندما كان حراً طليقاً، يحمل مصحفه عالياً وسط الجماهير التي تردّد وراءه قسمه بعدم خيانة الحراك، والاستمرار فيه حتى تحقيق مطالبه، مهما كانت المصاعب والعراقيل. وحتى داخل السجون، بدأ المعتقلون ينظمون أنفسهم، ويبدعون أشكالاً نضالية جديدة من وراء القضبان، جديدها الدعوة إلى معركة الأمعاء الفارغة "حتى تحقيق الحرية أو الشهادة"، كما جاء في بيان المعتقلين المضربين الذين بدأوا يسرّبون نداءات صوتية عبارة عن "وداع أخير" من وراء القضبان إلى الأهل والأصدقاء، في إشارة منهم على إصرارهم على الاستمرار في إضرابهم عن الطعام، حتى "الحرية" أو "الشهادة" كما يقولون.
كل هذه العناصر مجتمعة هي التي أعطت لـ "حراك الريف" زخمه وقوته التي جعلته يستمر كل هذه الشهور. وفي المقابل، ما زال عقل السلطة لم يتفتق عن شكل إبداعي جديد للتعاطي مع هذه "الحالة الاحتجاجية" لاحتوائها، قبل أن تتمدّد.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).