15 مارس 2021
لماذا تتراجع نسب "التديّن" في تركيا؟
نشرت مؤسسة استطلاعات الرأي (Konda) نتائج استطلاع أجرته بشأن انتخابات البلدية المعادة في إسطنبول، والتي جرت أمس الأحد (23/6/2019). وتشير نتائج الاستطلاع إلى تقدم مرشح حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلو، على نظيره من حزب العدالة والتنمية بن علي يلدريم بنحو 9.4%، بإجمالي 54%، و45% للمترشحين على الترتيب، وهي نتائج تقارب، إلى حد كبير، نتائج الانتخابات الأولى التي تم إجراؤها في 31 من مارس/ آذار الماضي. وتأتي على خلفية ما خلص إليه استطلاع الرأي العشري الذي شمل معدلات التدين الفردي والجماعي في تركيا، إلى جانب أوضاع النساء والتوظيف وأنماط العيش، وهي نتائجُ تقارن بنظيرتها في الفترة نفسها، منذ عشر سنوات، وكانت قد نشرت في فبراير/ شباط الماضي، قبيل الانتخابات الأولى. وعلى الرغم من أن التغير يعد طفيفاً إلى حد كبير، إلا أن تواتر المؤشرات، على مختلف مناحي التدين، الفردي والجماعي، يمكن ربطه بتغير المجال الديني ديمغرافيًا في العقد الأخير، وربما للموقف الشعبي العام تجاه الخطاب السياسي الذي تنهجه للنخبة الحاكمة، ومركزية الدين منه.
مثلاً، في نتائج الاستطلاع انخفضت نسبة من يعرّفون أنفسهم بـ"التقوى" من 13% إلى 10% في عام 2018، ومن اختاروا وصف "متديّن" لأنفسهم انخفضت نسبتهم من 55% في عام 2008 إلى 51% في العام الماضي. كذلك، ارتفعت نسبة من يعرّفون أنفسهم "ملحدين/ لادينيين" من تعداد مهمل إلى نحو 2% - 3%. وفي المقابل، انخفضت نسبة "المحافظين دينياً" من 77% إلى 65%، ونسبة من يشترطون وجود علاقة شرعية بين الرجل والمرأة لتبرير العيش المشترك من 79% إلى 74%. ولكن النتائج الأبرز جاءت في مساحة الممارسة الدينية، فنسبة من أجابوا بالالتزام بصيام رمضان قد انخفضت نحو 12%
(من 77% إلى 65%) بين التاريخين، بينما يلاحظ الاستطلاع ارتفاعاً بسيطاً في نسبة المحافظين على أداء الصلاة، وحضور صلاة الجمعة، ما يعني ازدياد ممارسة الدين جماعياً على حساب الممارسة الفردية.
وبينما يفسّر بعضهم تلك النتائج بالخطاب الديني الذي تنتهجه الحكومة، وبأنه كلما ازداد اعتماد النخبة السياسية على مفردات الدين في خطابها، ابتعدت الممارسة الفردية للمحكومين عن الالتزام الديني، إلا أن هناك تفسيرًا آخر يجدر أخذه في الاعتبار، وهو قدوم نحو أربعة ملايين لاجئ سوري إلى الداخل التركي، ونحو مليونين من دول عربية أخرى، وهذا يعني، بجانب تغير معطيات الاجتماع والكسب، تغير مساحة المجال الديني في تركيا، فالمعروف، على مدار العقود الماضية، أن نمط التدين في تركيا، إجمالًا، أقل التزامًا بحرفية الدين، وأكثر ميلاً إلى التدين الصوفي، خصوصاً على مستوى السلوك والممارسة، مقارنةً بأنماط أكثر وضوحاً للتدين في مصر، والتي ساد فيها التيار السلفي الوهابي عقوداً، والسعودية وسورية، وغيرها من الدول المسلمة في الجوار. ويُرجع بعضهم هذا التدين إلى أثر سياسات العلمنة التي أجراها الرئيس الجمهوري الأول، أتاتورك، بعد إعلان الدولة الحديثة، بحيث تأتي الممارسات الفردية والجماعية للتدين من ملايين المهاجرين العرب لتبرز "نقص" التدين، وبالتالي فارق التصورات عن مستواه لدى المبحوثين الأتراك بين عامي 2008، قبل الأزمة السورية وانتكاسات الربيع العربي، وعام 2018، هذا خصوصاً في مساحة السلوك ومظاهر الالتزام بالدين. ومن ناحية أخرى، ربط الرأي العام التركي لنمط التدين السلوكي/ المظهري لدى المهاجرين العرب ببعض الممارسات المنبوذة مجتمعياً في الداخل التركي، كتعدد الزوجات، يعد سبباً آخر لميل المبحوثين إلى تقليل تصوراتهم عن تدّينهم الشخصي، باعتباره قريناً لتلك الممارسات.
وبالتالي يصعب الربط سببياً، وبشكل حصري، بين مركزية الدين في الخطاب الرسمي وتراجع
تأييد حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية، على اعتبار أن هذا يأتي بمردود عكسي على مستوى الجماهير، بينما مركزية التدين التركي الصوفي هي التي اعتراها تغيّر كبير، بعد قدوم المهاجرين، وبروز ممارساتهم الدينية بشكل كبير في المجال العام، وربطه، في الأذهان، بنسب الفقر في التعليم والثقافة والدخول من ناحية، وتعدد الزوجات من ناحية أخرى، ما يجعل تصور الأتراك لمفهوم "التدين" أكثر اتساعاً، وتذبذباً، وتناقضاً في الوقت نفسه.
ويبقى على حزب "العدالة والتنمية"، في كل حال، تخفيف محتوى "الدين" في الخطاب الرسمي للنخب، ليس لأن الجمهور التركي أقل تمسّكاً بالدين الإسلامي، معتقدات وسلوكاً جماعياً، ولكن لأن استعمال السلطة الخطاب الديني، تحديداً مفهوم "الأخوة الإسلامية"، في تبرير سياسة فتح الباب للمهاجرين، بينما يتكبد مواطنو الطبقتين، الوسطى والفقيرة، فاتورة تلك السياسات، ويعانون اضطراب تصوراتهم عن الالتزام الديني، نتيجة اختلاط المجال العام بأطياف متمايزة للتدين، إنما يضر بالتأييد الجماهيري للسلطة، ولا يزيده، فمن هنا، قد يكون مفيداً الاستماع لآراء بعض المعارضين، ومعالجة أسباب المعاناة اليومية للمواطن التركي.
وبينما يفسّر بعضهم تلك النتائج بالخطاب الديني الذي تنتهجه الحكومة، وبأنه كلما ازداد اعتماد النخبة السياسية على مفردات الدين في خطابها، ابتعدت الممارسة الفردية للمحكومين عن الالتزام الديني، إلا أن هناك تفسيرًا آخر يجدر أخذه في الاعتبار، وهو قدوم نحو أربعة ملايين لاجئ سوري إلى الداخل التركي، ونحو مليونين من دول عربية أخرى، وهذا يعني، بجانب تغير معطيات الاجتماع والكسب، تغير مساحة المجال الديني في تركيا، فالمعروف، على مدار العقود الماضية، أن نمط التدين في تركيا، إجمالًا، أقل التزامًا بحرفية الدين، وأكثر ميلاً إلى التدين الصوفي، خصوصاً على مستوى السلوك والممارسة، مقارنةً بأنماط أكثر وضوحاً للتدين في مصر، والتي ساد فيها التيار السلفي الوهابي عقوداً، والسعودية وسورية، وغيرها من الدول المسلمة في الجوار. ويُرجع بعضهم هذا التدين إلى أثر سياسات العلمنة التي أجراها الرئيس الجمهوري الأول، أتاتورك، بعد إعلان الدولة الحديثة، بحيث تأتي الممارسات الفردية والجماعية للتدين من ملايين المهاجرين العرب لتبرز "نقص" التدين، وبالتالي فارق التصورات عن مستواه لدى المبحوثين الأتراك بين عامي 2008، قبل الأزمة السورية وانتكاسات الربيع العربي، وعام 2018، هذا خصوصاً في مساحة السلوك ومظاهر الالتزام بالدين. ومن ناحية أخرى، ربط الرأي العام التركي لنمط التدين السلوكي/ المظهري لدى المهاجرين العرب ببعض الممارسات المنبوذة مجتمعياً في الداخل التركي، كتعدد الزوجات، يعد سبباً آخر لميل المبحوثين إلى تقليل تصوراتهم عن تدّينهم الشخصي، باعتباره قريناً لتلك الممارسات.
وبالتالي يصعب الربط سببياً، وبشكل حصري، بين مركزية الدين في الخطاب الرسمي وتراجع
ويبقى على حزب "العدالة والتنمية"، في كل حال، تخفيف محتوى "الدين" في الخطاب الرسمي للنخب، ليس لأن الجمهور التركي أقل تمسّكاً بالدين الإسلامي، معتقدات وسلوكاً جماعياً، ولكن لأن استعمال السلطة الخطاب الديني، تحديداً مفهوم "الأخوة الإسلامية"، في تبرير سياسة فتح الباب للمهاجرين، بينما يتكبد مواطنو الطبقتين، الوسطى والفقيرة، فاتورة تلك السياسات، ويعانون اضطراب تصوراتهم عن الالتزام الديني، نتيجة اختلاط المجال العام بأطياف متمايزة للتدين، إنما يضر بالتأييد الجماهيري للسلطة، ولا يزيده، فمن هنا، قد يكون مفيداً الاستماع لآراء بعض المعارضين، ومعالجة أسباب المعاناة اليومية للمواطن التركي.
مقالات أخرى
26 يناير 2021
08 اغسطس 2020
29 مايو 2020