للضرورات أحكامها

09 ديسمبر 2015
حاولتا لجم نفسَيهما عن التحقّق من جوّالَيهما (فرانس برس)
+ الخط -

"عادة، لستُ من الذين يضعون الموبايل على طاولة الطعام". وتحاول تبرير سبب تحققها مراراً وتكراراً من هاتفها الجوّال الذي جعلته قريباً منها، "لكن لا بدّ من الإجابة عن هذه الرسائل القصيرة". ولدعم موقفها، تضيف: "في آداب المائدة، لا يجوز وضعه بالقرب من الأطباق عند تناول الوجبات. المائدة لأدواتها ولأطباق الطعام، حصراً". لكن "للضرورات أحكامها".
تبتسم الصديقة التي تشاركها طعام العشاء، وتهزّ برأسها كأنها تثني على كلامها. "من جهتي، لا يمكنني تطنيش كريم ولا مديري. لو بعث أيّ منهما برسالة الآن، سأضطر إلى الردّ. فلتعذريني". وتضحكان.

أكثر من ستة أشهر مرّت منذ آخر لقاء لهما. تحاول الصديقتان التعويض عما فاتهما، لدرجة أنهما لا تسمحان حتى للنادلة اللطيفة بأن تشوّش عليهما. لكن التحقق المستمرّ من هاتفَيهما الجوّالَين أمر مفروغ منه. هما مضطرتان، "للضرورات أحكامها".

هما ليستا حالتَين منعزلتَين. مرتادو ذلك المطعم جميعهم، يركّزون على هواتفهم الذكيّة، أكثر مما يستمتعون برفقة من معهم. يركّزون عليها، أكثر مما يستلذّون بتلك الأطباق التي يحرص "الشيف" على تقديمها بأسلوب مميّز. رائحتها تدغدغ الأنوف، لكن كثيرين يفوّتون مذاقها الطيّب لانشغالهم بذلك التواصل الافتراضيّ.

وتتداخل حدود العالم الافتراضيّ اليوم، مع تلك الخاصة بالواقع. وتضيع. أمر لا ينفيه المتخصّصون في التكنولوجيات الحديثة، لا بل يؤكّدونه مشيرين إلى مضاره ومحذّرين منه.
البشر عموماً، أصبحوا مدمني تكنولوجيات حديثة في أكثر جوانب حياتهم. حقيقة لا لبس فيها. ويؤكّد الباحث الفرنسي جيريمي كافانتو على موقع "لابو جيه كاتر" التابع لمعهد "جيه كاتر" التكنولوجيّ (فرنسا والولايات المتحدة الأميركيّة)، أننا لم نعد نشعر بالراحة اليوم من دونها. ويسأل: "كم من رقم هاتف تحفظون، من دون الرجوع إلى قائمة معارفكم؟ وكم من مرّة تلجأون إلى محرّكات البحث، حتى ولو كنتم متأكدين من معلوماتكم؟". يضيف: "لا شكّ في أنكم شعرتم بالهلع مرّة واحدة على أقلّ تقدير، عندما نسيتم هاتفكم الجوّال أو شاحنه ليوم كامل أو حتى لساعات. وأتساءل كيف يكون الحال لو اختفى موقعا فيسبوك وتويتر في يوم ما".

ويكاد أهل الاختصاص يجمعون على أنّ العالمَين الواقعيّ والافتراضيّ أصبحا مرتبطَين، لدرجة أنه يصعب علينا في أحيان كثيرة التمييز من أين يبدأ الواحد منهما وأين ينتهي الآخر. وفي ما يشبه التأسّف، يشيرون إلى أنّ هذا ليس سوى البداية.

في تلك العشيّة، حاولت الشابتان قدر المستطاع لجم نفسَيهما عن التحقّق من جوّالَيهما. نجحتا إلى حدّ كبير، من دون ضمان ذلك في لقائهما الثاني المتّفق عليه.

اقرأ أيضاً: لنحاول التواصل
دلالات