للا السعيدي أو مفارقات الهوية الأنثوية

05 يوليو 2016
من أعمال الفنانة للا السعيدي(العربي الجديد)
+ الخط -
لماذا يحس المشاهد أمام أعمال الفنانة للا السعيدي (التي تعيش وتمارس التدريس الفني بالولايات المتحدة)، بمزيج من الحيرة والافتتان؟ فالدهشة التي تخلقها أعمال هذه الفنانة لا تلبث أن تترك المجال للكثير من التأمل وللأكثر من التساؤلات المتناسلة. عالمها تنسجه كما ينسج مصمم الملابس إبداعاته. إنها تطرز الأجساد الأنثوية التي تستعرضها، تمسرحها في وضعيات تراوح بين الإثارة الخفيفة والاستعراض الممْهور بالغموض الكاسح. بيد أن هذه الأجساد لا تستعرض مفاتنها ولا جمالها بقدر ما تبدي عن وضعاتها، التي تثير فينا للتوّ وِضْعات التشكيل والفوتوغرافيا الاستشراقيين. والفضاءات التي تتمَشْهد فيها تلك الأجساد الأنثوية هي فضاءات باذخة في الرياضات والبيوتات العتيقة التي تمنحها الزخارف والزليج والنقوش طابعًا يوحي بالانعتاق والانغلاق والحرية الداخلية.
تبني للا السعيدي عالمها في مخمليته عبر تغليف الجسد بشكل مضاعف في لعبة ذات إيقاع
يزاوج بين الخفاء والتجلي وبين الكشف والإفصاح والإضمار والمواربة. فالجسد الأنثوي هنا يتخذ وضعيات قريبة أحيانًا من وضعية الغانية (الأوداليسكا) أو وضعيات أخرى. بيد أننا هنا نظل بعيدين عن خمول الغانية أو شبقية جسدها كما لدى الفنانين الاستشراقيين. مع ذلك ليست وِضْعة ذلك الجسد هي ما يهم الفنانة بقدر ما يهمها الشكل الذي يتخذه ذلك الجسد. هكذا تصبح العلامات والكتابات المخطوطة بالحناء التي تدثر بها المرأة هي الغلالة التي تلف بها الجسد في طابعه المرئي.
الجسد مكتوبًا، تلك هي اللعبة التي من خلالها تداور للا السعيدي بها الجسد الاستشراقي في طابعه الاستيهامي. هكذا يتحرر الجسد من بشرته اللحمية كي يغدو جسدًا متخيلًا، منذورًا لا للمتعة الشبقية وإنما للمتعة البصرية الخالصة التي بها يعلن عن هويته كجسد شرقي موضوع للرغبة، وإنما أيضًا كجسد متخيل حامل لهويته النصية. إنها لعبة خصوصية مارستها بشكل آخر، وبشكل مواز بعض الفنانات العربيات اللواتي تصدّين للاستشراق في تملّكه السلطوي والاستيهامي لجسد المرأة الشرقية. فقد سعت مثلا الفنانة التونسية مريم بودربالة وبشكل مغامر إلى مسْرحة جسدها الشخصي عاريًا خلف دثار شفاف تصوره بشكل فوتوغرافي ثم تركِّبه وتعدِّده ليغدو جسدًا غير قابل للمعاينة الواضحة والأحادية... كما عملت الفنانة الفلسطينية رائدة سعادة إلى أن تتخذ بجسدها وضعية الغانية لافَّة جسدها بقصاصات الجرائد التي تحكي جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة. بيد أن سلسلة أعمال المغربية ماجدة الخطاري المقيمة بباريس، والموسومة بـ"حريم" تبدو لنا الأقرب إلى عوالم للا السعيدي لأنها تمشْهد نساء في أبهى حللهن وبألوان متنافرة وصارخة وفي وضعيات تحاكي محاكاة ساخرة عوالم الاستشراق في تصويره للجسد الشرقي.
من اللباس التقليدي الذي كانت تستعمله النساء منذ العقود التليدة (الحايك) إلى القفاطين الداخلية بألوانها وزركشاتها الصداحة بالألوان، مرورا بالجلباب، تستعيد الفنانة الرؤى الاستشراقية لتعيد النظر فيها. يكفي أن نعاين لوحاتها الفوتوغرافية التي تهتم بالحايك المنسوج من الصوف لنستحضر الصور الفوتوغرافية التي تركها لنا عالم النفس الفرنسي غايتان دو كلارمبو Gaëtan de Clérambault حين حلّ بالمغرب في بدايات القرن الماضي، التي سجّل من خلالها اهتمامه بالدثار ضمن اشتغاله على اللباس منذ الرومان. كما أن وضْعات نسائها لا يمكن إلا أن تثير فينا أجواء نساء الجزائر في بيتهن لدولاكروا، والغانية بالقفطان لرونوار... وغيرها.
في عالم للا السعيدي، خلافًا للواقعية التي تتصف بها هذه الأعمال، تنطبع على اللوحة الفوتوغرافية بكاملها عناصر الزخرفة الكتابية منها وغير الخطية، بحيث يندمج الجسد الأنثوي في الفضاء المحيط به اندماجًا كليًا. إنه فضاء الطفولة الذي تسعى الفنانة إلى استعادته كي تحكي تاريخها الشخصي باعتبارها "ضحية" للعزلة ولسلطة ذلك الفضاء الأنثوي بامتياز، المفارق للفضاء الذكوري. في سلسلة "حريم" كما في غيرها من المتواليات البصرية، نحس أن المرأة تغدو "غانية بالمعنى الحرفي"، أي ذلك الكائن المجازي الذي يحيا في فضاء ليس بأقل مجازية وقهرًا، من حيث هو فضاء للتقاطع.
بهذه الطريقة الأسلوبية تدمج الفنانة كائناتها في صلب سياقها لتضفي عليها طابعًا مخمليًا وغامضًا يجعل الجسد يتفاعل مع محيطه ويصبح جزءًا لا يتجزأ منه. بيد أنه فضاء يضج
بالحكايات وبالهمسات وبالرغبات. هنا بالضبط تتقاطع رؤية للا السعيدي مع الرؤية الاستشراقية التي تعتبر ذلك الانغلاق قدرًا مأساويًا للمرأة العربية والشرقية عمومًا. والحال أننا نستحضر هنا شهادة امرأة فرنسية كاتبة عاشت بالمغرب، هي ألين دو لينس Aline de Lens، أصدرت مجموعة قصصية بعنوان "الحريم المنفرج" ورواية بعنوان "خلف أطلال الأسوار العتيقة"، وظلت تعتبر أن انغلاق المرأة الشرقية لم يكن خنوعًا بقدر ما كان أيضًا ضربًا من الحرية أبدعت فيه شخصيتها. تقول للا السعيدي: "بيد أن أعمالي تسير أبعد من الثقافة الإسلامية كي تثير الافتتان الغربي كما يعبّر عنه التشكيل الغربي من خلال الأوداليسكا والحجاب وطبعًا الحريم. وتلك طريقة أخرى كي لا يُقرأ فني باعتباره فقط نقدا للثقافة العربية. فصور الحريم والغانية لا تزال تخترق الحاضر وأنا أستعمل الجسد الأنثوي لأزعزع هذا التقليد".
حين انتقد إدوارد سعيد الاستشراق بنسقية صارت مرجعية، لم يكن في حسبانه أن هذه النظرة التي تتخذ من الشرق موضوعًا لها، قد تشكّل عدوى ربما يتبناها بشكل جزئي أو كلي العديد من الفنانين العرب، الذي يتخذون التصوير التشكيلي وسيطهم التعبيري، ذلك التصوير نفسه الذي به تمت بلورة الاستشراق الفني. ما هي الحدود الفاصلة بين النقد والسخرية والمحاكاة؟ فإذا كانت هذه الحدود تتبدى بهذا القدر أو ذاك من الوضوح لدى بعض الفنانات النقّادات والنسويات، كمريم بودربالة وماجدة الخطاري وغيرهما، فإنها هنا تلتبس علينا بدرجة كبيرة. والحقيقة أن المعالجة الشكلية للوحة البصرية هي التي تحوّل المحاكاة الاستشراقية لدى للا السعيدي إلى انزياح تعبيري يمنح للمقاربة المضمونية بعدًا مغايرًا ومفارقًا في الآن نفسه. إن الهوية التي تمنحها الفنانة للجسد الأنثوي من خلال الكتابة العربية والحناء والعناصر الزخرفية هي التي تنقذها من سلطة الطفولة وسلطة المرجع الانغلاقي الذي يبدو أنه المنطلق الأساس لهذه التجربة. هذه الهوية تخترقها مفارقات التصور والذاكرة وامتداداتها في الحاضر. بيد أن السؤال الأكبر يظل: إلى أي حد يمكن للفن أن يحررنا من الرؤية الاستشراقية وهو يتبنى مفاهيمها الأساس؟
دلالات
المساهمون