لكم لبنانكم... ولي لبناني

13 اغسطس 2020
متطوعون يوزعون الغذاء على منكوبي انفجار بيروت
+ الخط -

عنوان هذا المقال هو عنوان قصيدة جميلة، كتبها الشاعر والفيلسوف اللبناني الراحل جبران خليل جبران. ونظرته إلى لبنان لا تتلوّن بلون النزاعات، والتعصبات، ولا بلون الطوائف والإثنيات، ولا بلون الفراق والمنغصات.

لبنان جبران أخضر نقي جميل جذّاب بِأرْزه وجباله، بسهوله وشواطئه ووهدانه، وبتنوّع غلاله، وروعة الموسيقى التي يوحيها، وضجة الأطفال وضحكاتهم ترن في الجبال صدى وتصدية.
يوم الرابع من شهر أغسطس/ آب 2020، كانت عروس تنظر إلى نفسها في المرآة، وهي متأزرة بفستان العرس الأبيض الطويل، وتأمل في ليلة العمر مع الخلّ الذي ستقضي معه العمر كله. وإذا بالانفجار يدوّي، وينهار السقف المزدان ببلاطه وفسيفسائه وحجارته عليها. ثوان وقضي الأمر.
وفي مشهد آخر، رأينا راهباً في كنيسته، يدعو الله ويتبتل إليه. وإذا بالجدران تميل، والسقف يكبو، وتتناثر قطعه، فيهرع الراهب طلباً للنجاة، ولا تدري في آخر الشريط السريع إن نجح مسعاه في الحفاظ على حياته أم لم ينجح.
كل صورة أو شريط تحكي قصه لخصها يوماً الشاعر المصري حافظ ابراهيم في زلزال ميسينا (Messina) الإيطالية، حيث يقول:
ما "لمسين"؟عوجلت في صباها/ ودعاها من الردى داعيان
خسفت، ثم أغرقت، ثم بادت/ قضى الأمر كله في ثواني
وأتى أمرها فأضحت كأن لم/ تــك بالأمس زينة البلدان
ولو استبدلنا في البيت الأول أعلاه كلمة "مَسّين" بكلمة "بيروت" لكان التصوير دقيقاً جداً لما جرى في عروس الشرق. ولقد بدت بيروت، بَعْد الانفجارين، تطبيقاً دقيقاً لما قاله أحمد شوقي في وصف قصر الحمراء قبل أكثر من مائة عام.
مَشتِ الحادثات في غرف الحمراء/ مشي النعي في دار عرسِ

وقد أفاق الناس على ذلك الكابوس سُكارى وما هم بِسُكارى. وكانوا في هشاشة اللحظة وفقد الشعور جاهزين لتقبل أي تفسير. ولمّا يكد يمضِ يومان أو أكثر، حتى بدأت الروايات والإشاعات والتفسيرات والملاومات. وبعد فترةٍ، لم يعد الناس من صدمتهم مهتمين بالفاعل بقدر ما كان هَمُّهم منصباً على أصل الحكاية. من أين أتت نترات الأمونيوم؟ من صاحبها؟ من سمح بتخزينها؟ وكيف بقيت هنالك قرابة سبع سنوات، من دون أن يعرف عنها أحد؟
وقد ران الصمت على هوية الفاعل المحتمل أو المستفيد من وراء جريمة نكراء كهذه من هول الخسائر في الأرواح والممتلكات. وحتى رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، قاوم إغراء التفاخر بحادثة كهذه، والرئيس الأميركي عاد وقبل نظرية أن ما وقع كان حادثة، بعدما رجّح، في أول تصريح له، أن الأمر كان تفجيراً وبفعل فاعل.
وانتقل الغضب عن الحادث إلى مطالبةٍ بتغيير النموذج السياسي الذي يحتكم إليه لبنان منذ قرن ونيف، وهو المحاصصة الطائفية، والاستزلام، والمليشيات الخاصة. وقد انتقل لبنان من ديمقراطيةٍ يحكمها ميزان دقيق بين الطوائف إلى تفاهمات مصلحية بين زعماء الطوائف وأنصارهم وقبضاياتهم.
أما الكلف الاقتصادية فلم تحسب بعد، ومعظمها لا يستند إلى تقديراتٍ منهجيةٍ قائمة على كشف دقيق للخسائر، وافتراضات مقبولة للكلف. وفي أول تقدير صدر عن جهة رسمية لبنانية، قال إن الكلفة تبلغ من اثنين إلى ثلاثة مليارات دولار. ثم جاء رقم بعده بيومين، يضع الكلفة في حدود خمسة إلى سبعة مليارات دولار، وآخر تقدير وصل إلى مسامعي تراوح بين 10 إلى 15 مليار دولار. 

ولا تدري ما هي مكونات هذه الكلف، هل هي محصورة في تقدير كلف ما تهدم من أبنية ومنشآت وجسور وغيرها؟ أم هل هي كلفة إعادة البناء؟ ولا ندري إن احتوت على تقدير لتكاليف عمليات الإنقاذ، والمساعدات الإنسانية، وكلفة رفع الردم وفتح الطرق. ولا ندري إن جرى تقدير كلف الخسائر المترتبة على المحال التجارية، أو أثاث البيوت، أو الممتلكات الثمينة الضائعة، أو كلف العلاج للجرحى الذين تجاوزوا الستة آلاف.
أما بالنسبة للكلف في المستقبل إذا استمرت الاحتجاجات وغطت المدن الرئيسيّة، وارتفعت أعداد الإصابات بفيروس كوفيد 19، أو كلف إعادة البنية التحتية، من مياه وشبكات خطوط هاتفية وكهربائية، ومجار وغيرها، بعد انقطاع طويل، ما تزال غير محسوبة.
سيعاني لبنانيون كثيرون من الضغوط النفسية وآثارها على السلوكين، الفردي والجماعي. ولعل لبنان يتعرّض لمأساة أخرى، هجرة ما تبقى فيه من عقول قد تهاجر إلى الغرب، أو إلى أي دول أخرى. إلى ماذا سيؤول الوضع في لبنان؟ سؤال من الصعب أن تجد له جواباً شافياً، والجرح لمّا يزل ينكأ بالدماء.