لغز الشلاليط الثلاثة
أدّى اختفاء (الجنود) الإسرائيليين الثلاثة إلى قلب طاولات كثيرةٍ في الملعب السياسي، فالإسرائيليّون باغتهم الحدث، وهزّ صورتهم، ليس أمام عدوّهم الفلسطينيّ فقط، بل أمام أنفسهم بالدرجة الأولى، حتّى إنّ (أفيحاي أدرعي) راح يتذاكى، ببلاهة تامّة، على زوّار صفحته الفضوليّين في "فيسبوك"، طمعًا في الحصول على أيّة معلومات عن المختفين، ولم يخرج، في النهاية، إلاّ بتعليقاتٍ لاذعة، ونكاتٍ قاسية، حوّلته إلى مسخرة. أمّا السلطة الفلسطينيّة، فقد سارع رئيسها إلى المطالبة بإعادة المختفين الثلاثة، بحجّة أنّ المستوطنين (بشر مثلنا)، وأنذر شعبه بأنّه لن يسمح لهم بالقيام بانتفاضة جديدة، تتّخذها إسرائيل ذريعة لأيّ اجتياح قادم، وندّد بإسرائيل التي تسعى إلى التخريب على حكومة المصالحة الوطنيّة العتيدة.
وقد أثارت تصريحات محمود عبّاس موجة واسعةً من الشجب والغضب على صفحات التواصل الاجتماعيّ، حتّى إنّ (كتائب شهداء الأقصى) الفتحاويّة، في مخيّم بلاطة، أصدرت بيانًا تتّهم فيه محمود عبّاس بالخيانة. ومن جهة أخرى، عاد بعض رجال السلطة إلى التلويح بـ (حلّ السلطة)، ردًّا على الانتهاكات الّتي ارتكبتها إسرائيل أثناء تفتيشها المحموم عن المختفين الثلاثة، وهو تهديد في اتّجاهين: في اتّجاه إسرائيل، التي يُعتقد أنّها لن تغامر بالعودة إلى تحمّل عبء الاحتلال، وما يترتّب عليه من تبعات ماديّة وأخلاقيّة، وفي اتّجاه الفلسطينيّين ذاتهم، الذين يُعتقد أنّهم لن يغامروا بالعودة إلى تحمّل عبء الثورة، وما يترتّب عليها من تبعات ماديّة ونفسيّة.
على الصعيد الشعبيّ، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعيّ بالحماس والتحريض والغضب، لكنّ ذلك كلّه لم ينتقل إلى الشارع. وكان من الواضح أنّ جيش الاحتلال، بدوره، لا يسعى إلى الاصطدام بعنف مع الفلسطينيّين، لئلاّ يتحوّل ذلك إلى انتفاضة جديدة، يمكن أن تسقط سلطة أوسلو الواهية. كانت حوارات "فيسبوك "الساخنة تكشف عن عمق الأزمة في الوعي الفلسطيني، المنقسم على ذاته، والعاجز عن الوصول بسلاسة إلى الشارع، وكانت الآراء تتلاطم، فبعضها يطالب بحلّ السلطة، التي لم يعد لها من دور سوى التنسيق الأمنيّ مع سلطات الاحتلال، وبعضها الآخر يحذّر من حلّ السلطة، التي يعمل فيها جيش ضخم من الموظّفين، وترتبط بها أسباب عيش الملايين من الفلسطينيّين؛ وبعضها يدعو إلى انتفاضةٍ، تصحّح ما اعوجّ في المسار التفاوضيّ، فيما بعضها الآخر يحذّر من انتفاضةٍ، لا يعلم نتائجها إلاّ الله!!
أحد الأصدقاء كتب: إنّ مئات من الفلسطينيّين يذهبون، الآن، إلى المواجهة مع جيش الاحتلال، فيما مئات الألوف يذهبون يوميّا إلى العمل في مؤسّسات السلطة، ودعا إلى ضرورة استفتاء الشعب حول مسألة حلّ السلطة، والكفّ عن التصرّف من دون العودة إليه. وقد ردّ عليه صديق آخر بالقول إنّه لا حاجة للاستفتاء على سلطةٍ، تسقط الآن في الشارع، الذي ينتفض ضدّ تخاذلها، فيما دعا صديق ثالث إلى حلّ السلطة، وإعادة تحميل المسؤوليّات كاملة للاحتلال، الذي بات يقتل منّا، في غارة واحدة على غزّة، أضعاف أضعاف ما قتل أثناء احتلاله إيّاها.
ووصل الجدال إلى مسائل تستحقّ، فعلاً، أن توضع على الطاولة، وأن تناقش برويّة، وهي مسائل تتعلّق بالمقاومة وجدواها وأساليبها، وبالسلطة وجدواها وحدود عملها، وبالوعي ودوره في قراءة الواقع وكتابته … إلخ، وقد لفت انتباهي أنّ كلّ تلك الآراء، على تناقضها، كانت تحمل شيئًا من الحقيقة، وأنّ محصّلة (الحوار) بين تلك الآراء الوجيهة كانت صفرًا، حيث بقي كلّ ذي رأي على رأيه.
العجيب، في الأمر، أنّ الوعي الفلسطينيّ الآن ـ وربّما العربيّ ـ يتحاور كلّه على هذا النحو، وذلك ما يملي علينا أن نعي الأرض القلقة الّتي نقف عليها ونحن نتحاور، وأن ننتبه إلى أنّ حوارنا يجري في سياق غير طبيعيّ، لكي نتمكّن من رؤية أنفسنا ونحن نهذي، ولكي نقيس حجم انزياحنا عمّا يمكن أن نعتبره (الحقيقة) لخلل في السياق، لا لخللٍ فينا.
لقد تحوّل اختفاء (الشلاليط الثلاثة) ـ كما سمّاهم الفلسطينيّون ـ إلى صفعة على قفا الاحتلال، الذي تخبّط كثيرًا وهو يحاول العثور عليهم، واضطرّ إلى (الانحناء) داخل الجحور والكهوف وخزائن الثياب وأدراج الطاولات وصناديق السيّارات والآبار ومجارير القاذورات، من دون أن ينتبه إلى البعد الرمزيّ المحمول على هبوطه إلى مناطق العتمة، تلك التي خلقها هو بنفسه، أمّا الفلسطينيّون، فإنّهم يدركون، بلا ريب، أنّ لعبة (الشلاليط الثلاثة) لن تحرّر فلسطين. لكنّها، على الصعيد الرمزيّ، تشير إلى أنّ الاحتلال لا يمكن أن يوجد إلاّ في مكانٍ غير مكانه، وهذا ما يجعله غريبًا وطارئًا ومؤقّتًا ولامكانيًّا، ومن جهة أخرى، فإنّ المكان، حين يستخدم كطاقيّة إخفاء، يتحوّل إلى طاقةٍ لدى أصحابه، وذلك ما يحتاج (الوعي) الفلسطينيّ إلى إدراكه أنّ المكان، لا (السلطة)، هو الجذع الّذي ينبت عليه الوجود الفلسطينيّ، وهذا ما يجعله وجودًا مختلفًا وقادرًا على المقاومة ومواجهة اليأس والفوضى التي تحيط به. ولذا، فإنّ السلطة، التي وجدت لتكون أداة للاحتلال، لن تكون أداة للمقاومة، وإنّ وجودها لا يعني سوى أنّ المقاومة في إجازة، وهذا ما لا يريد الفلسطينيّون، على اختلاف مشاربهم، أن يعترفوا به. المفارقة الكبرى تتمثّل في أنّ (المقاوم) مصاب بشهوة السلطة، فيما (المفاوض) تائه في مكانٍ لا يعرف عنه شيئًا.
إنّ السلطة الفلسطينيّة، أيضًا، غريبة وطارئة ومؤقّتة ولامكانيّة.