صناعة الإرهاب
تَمّ، في 7 أغسطس/آب 1998، في آن واحد، تفجير السفارتين الأميركيّتين في كلّ من دار السلام بتنزانيا ونيروبي بكينيا. بعد ذلك، بدأ اسم (القاعدة) يتردّد، بوصفه النواة الأولى الّتي ستنبت منها شجرة الإرهاب العظيمة لاحقاً. وحتّى هذه اللحظة، ما زلت أرى أنّ مفردة (إرهاب) تنتمي إلى معجمٍ سياسيٍّ، قائم بكلّيّته على التضليل والابتزاز؛ إذ لم يعد من الممكن، مثلاً، معرفة الفرق بين الإرهاب والمقاومة، أو بين الإرهاب والإسلام السياسيّ السنّيّ، ولم يعد بوسع أحد أن يعترض على الإرهاب الذي تمارسه الولايات المتّحدة الأميركيّة تحت شعار (الحرب على الإرهاب)، والذي جعل دول المنظومتين العربيّة والإسلاميّة أشبه بعصابةٍ، لا همّ لها سوى العمل على ضرب (المقاومة)، ومحاربة (الإسلام السياسيّ السنّيّ) مرضاةً لوجه أميركا. بعد تفجيرات نيويورك، في 11 سبتمبر/أيلول 2001، تحوّلت (القاعدة) إلى فزّاعة، وفي 7 أكتوبر/تشرين أول 2001، قامت أميركا وبريطانيا بمهاجمة أفغانستان واحتلالها، بهدف اعتقال أسامة بن لادن وقيادات القاعدة الأخرى، وأعلن جورج بوش أنّه لن يميّز بين المنظّمات الإرهابيّة والدول أو الحكومات الّتي تؤويها أو تدعمها؛ وفي 20 مارس/آذار 2003، قامت أمريكا وبريطانيا بمهاجمة العراق واحتلاله، بحجّة امتلاكه وتصنيعه أسلحة الدمار الشامل، وبهدف (نشر الأفكار الديمقراطيّة في منطقة الشرق الأوسط، ولو بالقوّة العسكريّة، وتغيير أنظمة الحكم الرسميّة للدول).
لقد بدأ الأمر، إذن، بالحرب على القاعدة بوصفها مثالاً للإرهاب، وانتهى بالحرب على شعوب المنطقة وأنظمتها السياسيّة، لفرض الخيار الأميركيّ عليها، ولا علاقة لهذا الأمر بمحاربة الإرهاب. وفيما تحرّكت الشعوب، معلنة رفضها القاطع الخيار الأميركيّ، انتحت الأنظمة العربيّة جانباً، وفي مقدّمتها نظام الممانعة الأسديّ في سوريّة، وراحت تتفرّج ـ بتشفٍّ أحياناً ـ على مشهد السقوط المروّع للدولة العراقيّة في مسلسل (الحرب على الإرهاب). هكذا، راح مفهوم الإرهاب يضيق ويتّسع، بما يناسب المعايير الأميركيّة، فحزب الله ـ مثلاً ـ مسموح له أن يحارب الثوّار السوريّين، وهو ليس إرهابياً في ذلك. لكنّه إرهابيّ في حربه ضدّ إسرائيل؛ والقاعدة لم تكن إرهابيّة في حربها ضدّ الاتّحاد السوفييتيّ، لكنّها صارت إرهابيّة حين حاربت الولايات المتّحدة؛ وقصف حماس المستوطنات الصهيونيّة إرهاب صريح، أمّا قصف إسرائيل المواقع العسكريّة السوريّة، أو قصف سوريّة المدنيّين في حلب، فهو ليس إرهاباً قطّ.
لقد أرادت الولايات المتّحدة أن تحتكر صناعة (الإرهاب)، لتوظّفها بما يلائم السيناريوهات الّتي أعدّتها للمنطقة، لكنّ الأنظمة في المنطقة تعلّمت الدرس الأميركيّ، وراحت تعلّق خرابها كلّه على مشجب الإرهاب الّذي تبيّن أنّه من صنعها، وليس من صنع (الجماعات الإسلاميّة)، وأبرز مثالين على ذلك نظام مبارك الذي دبّر تفجيرات شرم الشيخ وكنيسة القدّيسين في الإسكندريّة؛ والنظام الأسديّ، الّذي تشير الأدلّة إلى ضلوعه في تفجيراتٍ كثيرة، عدا عن دوره في خلق فزّاعة (داعش) المستنسخة عن (القاعدة) ذاتها، لكن، بشكل أكثر عنفاً وأكثر واقعيّة. لقد تحدّثت (التايمز) عن وجود 2500 مقاتل (شيعيّ) في صفوف داعش، ونشرت وثيقة كتبها علي مملوك، المسؤول الأمنيّ الكبير في النظام الأسديّ، تفيد بأنّ ثمّة 150 مدربّاً و 600 خبير من مختلف التخصّصات يعملون مع داعش، وهم من أتباع النظام الخلّص، وقد أكّد المتحدّث باسم الجيش السوريّ الحرّ، عمر أبو ليلى، صحّة الوثيقة؛ وأكّد سمير محمّد، من الجيش الحرّ، أنّه تمّ القبض على مقاتلين من داعش، اعترفوا بعلاقتهم بالنظام. وهذا ما يفسّر التواطؤات بين الطرفين الّتي جعلت كلّاً منهما يمتنع عن ضرب الآخر.
والآن، انتهت حكاية (القاعدة)، التي لم يجرؤ على التشكيك في سرديّتها الواهية سوى قلّة من الناس. لكنّنا ما زلنا نصدّق (المرويّات) الأميركيّة المتعلّقة بغارة القاعدة على نيويورك وواشنطن، من دون أن نتساءل. وها نحن، ثانيةً، نقف أمام (داعش) بالعقليّة ذاتها، الّتي تمتثل للمعلومة ولا تسائلها، إذ سرعان ما صدّقنا ـ أو أردنا أن نصدّق ـ أنّ داعش هي الّتي استولت على مدينة الموصل وغيرها من مدن الشمال العراقيّ، وأنّها في طريقها إلى بغداد وإلى النجف وكربلاء، وسرعان ما بدأ التحشيد الّذي أسفر عن تسجيل 25 ألف متطوّع للقتال ضدّ داعش في كربلاء وحدها، وسرعان ما انبرت غربان الثقافة، تنعق بكلّ ذلك الهراء الّذي جعل من داعش أسطورة للرعب، وهي مجرّد لعبة اخترعتها أنظمة خائفة من شعوبها الّتي بدأت تنتفض.
الغريب في الأمر أنّ النظام الأسديّ الّذي دكّ مدينة حلب بالبراميل، ولم يلق حجراً على داعش، قصف ـ مشكوراً ـ المسلّحين العراقيّين الثائرين على نظام نوري المالكيّ، بدلاً من أن يردّ على إسرائيل الّتي قصفت بعض مواقعه العسكريّة في الجولان. لكنّ غربان الثقافة رأت في ذلك دليلاً على أنّ النظام يحارب الإرهاب، ولم تر أنّه يبتكر الإرهاب ليحارب شعبه.
القول إنّ كلّ هذا (الإرهاب) نابع من ثقافتنا وذاتنا المريضة هو قول مجحف وغير موضوعيّ، ولو تأمّل أصحاب ذلك القول حقّ التأمّل، لأدركوا أنّ الضحايا والمستضعفين والمهزومين لا يقدرون على الإرهاب، لأنّه تجلٍّ من تجلّيات القوّة الّتي لو امتلكوا أسبابها لما كانوا ضحايا.