لعنة المشافي الخاصة!

19 مايو 2019
+ الخط -
ثمّة مفارقة يكاد العقل لا يُصدّقها حيال واقع المشافي الخاصة وأسعارها المدهشة التي وصلت إلى درجة لم تعد تحتمل، وصارت حكايات تروى يتناقلها الناس في مدينة الرَّقة، التي سبق أن انضوت تحت حكم "داعش" لفترة من الوقت، ولم تقم لها قائمة حتى اليوم، ويعاني أهلها من فقر مدقع وضيق مادي خانق!!

ويتمثّل ذلك في مالكي أمثال هذه المشافي وجزاريها وجشعهم المادي غير المحدود، ومطالباتهم المجحفة بحق المرضى الذين لا حول لهم ولا قوّة، لا سيما أنَّ الرّقة -ككل- ما زالت تعاني، وإلى اليوم، من أزمة صحية صارخة، وبصورةٍ خاصة، بعد أن حولتها الحرب والعصابات الإرهابية المجرمة إلى ما هي عليه اليوم من ورم سرطاني لا يمكن بحال الإفاقة منه!

ورم مرير ومتجذّر حل بأهلها وبمرافقها الخدمية المتدنية، وبأهلها البسطاء نتيجة الحرب التي قضت على أجزاء كبيرة من مساحتها، وتدمير البنى التحتية، ناهيك عن تحويل المدينة إلى كومة من الركام المحطّم لا يمكن الإفاقة منه ببساطة، فضلاً عن تهجير أهلها، والمعاملة السيئة التي شهدها كل من تشبّث بأرضها ولم يفكر في تركها والنزوح عنها، سواء من قبل "داعش" وعناصره، ومن لفَّ لفهم من أبناء الرَّقة الذين كانوا أعضاء فعَّالين في التنظيم الإرهابي، الماسخ، وعاملوا أهلها، وللأسف، بكل قسوة وتعسّف أحمقين، ولم يقصروا في توجيه اللعنة إليهم وقذفهم بأبشع العبارات وأرذلها، ولم يخلص منهم أحد، ولحقتهم عصابات "قسد"، هي الأخرى التي قامت باعتقال الشباب، وتجنيدهم في صفوفها، وإلقاء القبض على الغالبية ممن لم يستجب أحد لرغباتهم، وباختلاق أي ذريعة كانت، وإذلالهم وإهانتهم، ولم يقتصر الحال على هؤلاء وغيرهم، فالمشاركة أدركها معهم أصحاب الأردية البيضاء، الأطباء، نُخبة المجتمع الذين كانوا أشدّ إيلاماً بحق أهلهم وإخوانهم الذين قاموا برفع أسعار أجور الكشوفات الطبية، إلى حد غير مقبول تماماً، فكانوا بحق الجلادين الفعليين الذين مارسوا حيال أبناء الرّقة ما لم يقم به الغرباء عنها!


وما روي من قصص مؤسية بحاجة إلى مجلدات لتتسع لما تعرَّضَ إليه المرضى من معاملة سيئة، وابتزاز لافت، وما نمي ونقل من قبل أصدقاء لا يمكن أن يعيه أو يصدقه العقل، والحال أيضاً بالنسبة للمستشفيات الخاصة التي كشفت عن عباءتها، بعد هزيمة "داعش"، بصورةٍ خاصة..

ويتساءَل بعضهم عن الأسباب التي دفعت بأصحاب المشافي الخاصة، التي أعادت جاهزيتها بشكلٍ جيد بعد أن نالت نصيبها وحظّها من الدمار الذي أتى على الأغلبية منها، إلى رفعها أجور العمليات، من البسيطة وانتهاء بتلك التي تتطلب جهداً إضافياً، بحيث لم يعد المواطن قادراً على دخولها والسبب هو المبالغ الكبيرة التي يتطلب من أهل المريض دفعها!

واستوقفني عدد من الصور التي جرت أحداثها في أحد المشافي الخاصة الذي أعيد ترميمه، وهو أن أحد المرضى سبق أن تعرَّض لحادث سير أليم نتيجة ركوبه دراجة نارية، وعلى إثرها كسرت رجله وهو بحاجة إلى تجبير العظم، وإجراء ما يلزم لإعادته إلى وضعه الطبيعي، فتصوروا أنه تم إدخال المصاب إلى قسم العمليات وأجريت له العملية المقرّرة، من دون العودة لأهل المصاب الذين فوجئوا بفاتورة المشفى الباهظة جداً والتي تصل إلى مليوني ليرة سورية، فما كان من والد المصاب إلاّ أن أصيب بصدمة كبيرة، ما اضطره إلى اللجوء لتأمين نصف المبلغ المطلوب بمساعدة الأقارب والأصدقاء الموسرين.. وطالبته إدارة المشفى ببقية المبلغ الذي لا يعرفُ إلى أي جهة يمكنه الالتجاء لتأمينه وإبراء ذمّة ابنه، وهو إنسان عامل بالأجر اليومي!

وصورة أخرى لامرأة اضطرت إلى إحضار ابنتها المصابة بمرض السحايا، ولم تستجب المشفى لعلاجها إلاّ في اليوم التالي بعد حضور الطبيب الغائب الذي لم يكن يبالي بمرضها، ما زادها تأزماً!؟

وصورة ثالثة لشخص جاء بابنته إلى المشفى، وهي بحاجة إلى عملية بسيطة، فتحة بالظهر-إزالة "كيس مي"، على أن المبلغ المتفق عليه لا يتجاوز المائة ألف ليرة، وبعد انتهاء الجراحة فوجئ والد الطفلة بالمبلغ المطلوب دفعه، وقدره مائتان وخمسون ألف ليرة لقاء هذه العملية البسيطة التي خضعت لها، فما كان من والد الطفلة إلا أن امتنع عن دفع بقية المبلغ، وقال لهم حرفياً: "لا قدرة لي على دفع المبلغ.. عليكم بابنتي. من الأفضل أن تظل لديكم!".

فهل تعيد المشافي الخاصة العاملة حالياً في الرَّقة، مراعاة ظروف أهلنا هناك، وتخفيف العبء عنهم بخفض أسعار أجور العمليات الجراحية؟ والسبب أنَّ الغالبية منهم باتوا يفتقدون لأي عمل يقومون به وإمكانياتهم المادية محدودة جداً.. وما بين أيديهم، بالكاد يكفي قوت يومهم!

يظل الأمل كبيراً بحل هذه المعضلة التي صارت حديث الشارع في مدينة الرَّقة اليوم، التي تقوم "قسد" على إدارتها، ويعاني منها الأهالي الذين لا حول لهم ولا قوّة، وبالكاد تعتمد القلة منهم على مساعدات خارجية من قبل أبنائهم المقيمين خارج القطر، الذين نالوا ما نالوا من غياب وهجرة قسرية، ومعاناة كبيرة ظلَّت إلى اليوم، تطاردهم أينما حلّوا.
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.