لحظةٌ لبنانية بعينَي ناقدٍ سينمائي

17 يناير 2020
"غود مورنينغ": الوصول المعطّل إلى "أوسكار" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يصعب على ناقدٍ لبنانيّ أنْ يتابع أحوال السينما في بلده والعالم، بعد ليلة 14 يناير/ كانون الثاني 2020، كما يفعل قبلها. هذه لحظة مختلفة، إلى حدّ كبير، عن أيامٍ سابقة من يوميات "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية. "غضب الأهالي" قاسٍ وعميق وحقيقي. سلطات البلد متعنّتة إزاء مطالب مُحقّة. الغليان، في تلك الليلة، جزءٌ أساسيّ من سلوك لبنانيات ولبنانيين ينتفضون ضد فساد ونهب وهدر وتعالٍ ولامبالاة واهتراء، وهذه سمات سلطات متمسّكة بمواقعها، رغم كلّ رفض لها من شابات الانتفاضة وشبابها، ومن أناسٍ كثيرين.

تأتي تلك الليلة اللبنانية بعد ساعاتٍ على إعلان لائحة الترشيحات الرسميّة لـ"أوسكار الـ92"، الخالية من فيلمٍ لبناني ("1982" لوليد مونس) يُثير جدلاً بسبب اختياره من وزارة الثقافة اللبنانية لـ"تمثيل لبنان" في لائحة "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها"، مانحة الجوائز الهوليوودية. جدل متأتٍ من مخالفةٍ مُمارَسَة من لجنة الاختيار، تؤدّي إلى رفض "غود مورنينغ" لبهيج حجيج، رغم استيفائه شروط الأكاديمية. هذا حاصلٌ قبل أشهر. يوم الاثنين، 13 يناير/ كانون الثاني 2020، يكشف المتوقَّع سنوياً: للأكاديمية تطلّعات وأمزجة غير مكترثة بجدلٍ لبناني في مسائل، ربما تكون مهمّة في آلية الاختيار.

يصعب على ناقدٍ لبناني أنْ يُواظب على تأدية مهنة، تتطلّب منه غالباً "العضّ" على ألمٍ وجرح، من دون تناسيهما. ليلة 14/ 1 صاخبة. ارتفاع ملحوظ في عنف الأمن، الذي يواجه منتفضات ومنتفضين على مصرف لبنان والمصارف، لأنّ المصرف المركزيّ تحديداً يتحمّل المسؤولية الكبرى عن خراب الاقتصاد اللبناني. الشاشة الصغيرة تُثير الانتباه أكثر من الشاشة الكبيرة في تلك اللحظة. المؤسّسات الإعلامية اللبنانية متواطئةٌ مع حيتان المال وتنانين السياسة والاقتصاد والأحزاب والأمن، لكن بعضها ينقل وقائع ساعات مضنية من المواجهة غير المتكافئة بين استخدام عنفٍ أمنيّ مفرط، ومتظاهرات ومتظاهرين "يتسلّحون" بسلميّة تظاهراتهم وتحرّكاتهم، ويعتريهم غضبٌ كبير، لكن وعيهم أصيل، فهم يُدركون آليات المواجهة السلميّة والمدنيّة، رغم الاستفزازات والتحدّيات والاعتقالات.

المشهد اللبناني في شارع الحمرا تلك الليلة جديرٌ بتوثيق بصري، مُؤهَّل (التوثيق) لأنْ يكون مادة سينمائية لاحقة. يُشبه مجريات أحداثٍ أخرى في بلدانٍ تنهار عملتها، ويُصاب اقتصادها بعطبٍ شديد، ويتولّى الأمن قمع انتفاضات الناس وغضبهم ومطالباتهم السلميّة بحقوق مهدورة ومنهوبة. مشهدٌ يستدعي كمّاً من الصُور السينمائية، ويضع الناقد أمام التكرار غير المملّ لوقائعها، فعدم الملل متأتٍ من حيوية الشارع في الأمكنة كلّها، مقابل صنمية النظام الحاكم وأدواته، في الأمكنة كلّها أيضاً.
يعثر الناقد على آمالٍ عديدة في الصُور السينمائية المتكرّرة، رغم أنّ لكل واقع تجربة مختلفة وخاصّة، ولعلّ الاختلاف والخصوصية أقدر على منح آمالٍ مطلوبة بتبديل حال، أو بتغيير نهج. يُدرك الناقد أنّ المصاعب جمّة، وأنّ النظام الحاكم يبطش بمن يُقارعه ويرفضه وينتفض على بيئته الضيّقة من أجل بلد واجتماع مختلفين. لكنه يرى في الصُور السينمائية، كما في اللقطات المنقولة على شاشات تلفزيونية أو وسائط أخرى، ما يدعو إلى راحة، وإنْ تكن مؤقّتة، إزاء غضبٍ صادق يُوجَّه ضد آلة تُمعِن فتكاً بالبلد وناسه.

يرتبك الناقد. فالشارع الذي ينتمي الناقدُ إليه مستمرٌ في إعلان غضبٍ وانتفاضة، والمهنة محتاجة إلى متابعة وقراءة، واللحظة راسخةٌ في وجدان ووعي. الطريق إلى الخلاص مليئة بالألغام. والمهنة تبقى ملاذاً تُحصّنه السينما، بمفرداتها ووقائعها وسردياتها وأدواتها واشتغالاتها، من عطبٍ، رغم أنّ العطب حاصلٌ في أحوال العيش.
المساهمون