18 أكتوبر 2024
لبنان.. ويسألونك: لماذا الإرهاب؟
قديماً قيل "العدل أساس المُلك". والمُلك يعني في بعض معانيه الاستمرارية. استمرارية النظام، أو السلطة، أو الأسرة الحاكمة أو أي شيء من هذا القبيل. والاستمرار يحتاج إلى استقرار، فلا استمرار من دونه، والاستقرار قد يكون نسبياً، وقد يكون مطلقاً ولو نظرياً. ولذلك، تلجأ السلطات إلى تأمين الاستقرار من خلال قاعدتين، العدالة والشفافية والمساواة وسيادة مبدأ القانون والحقوق وتكافؤ الفرص، وهنا يكون الاستقرار أقرب إلى المطلق، وهنا سرّ استمرار المجتمعات وتقدّمها وتفوّقها ونهضتها وإبداعها. والثانية أن تلجأ السلطات إلى تأمين الاستقرار بالقوة والبطش والتخويف والترهيب. وهنا، تجد المجتمع هادئاً، لكنه كامن تحت "الرماد" كما يقال، بحيث أنه، مع أول فرصة أو منعطف، يطيح بالاستقرار المزعوم للتخلّص من العبودية والذل والقهر. وهنا، يكتشف الإنسان أن أي استقرار قائم على القوة والقهر والبطش ليس سوى برميل بارود، ينتظر عود الثقاب الذي يحوّله إلى مادة متفجرة بالمجتمع، وبكل مَنْ وما فيه.
مناسبة الحديث في هذه المقدمة عن استقرار المجتمعات، وما يمكن أن تخلّفه بالنسبة للإنسان، القرار الذي اتخذته محكمة التمييز العسكرية في لبنان بإطلاق سراح الوزير السابق الموقوف لديها، ميشال سماحة، بعد توقيف دام ثلاث سنوات وأربعة أشهر. وللتذكير، فإن توقيف سماحة على يد شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي جرى في حينه، بعد أن ضبط وهو ينقل متفجرات من سورية إلى لبنان، لتفجير إفطارات رمضانية، واغتيال شخصياتٍ دينيةٍ وسياسيةٍ في شمال لبنان، بغرض إشعال فتنة طائفية ومذهبية، وهو ما اعترف به سماحة أمام المحققين وأمام القضاة في المحكمة، وهو ما أظهرته أشرطة الفيديو المسجلة له، في أثناء إعداده تلك المواد المتفجرة، وفي أثناء نقلها، والطلب من أحد الأشخاص تفجيرها. وعلى الرغم من كل هذه الاعترافات والقرائن والأدلة والبراهين، وعلى الرغم من وجود النية الجرمية، وهي إشعال فتنة طائفية، واغتيال شخصيات دينية وسياسية، وعلى الرغم من وقوع كل هذه الأعمال، أو النيات المقرونة بالأدلة تحت بند الإرهاب، فإن المحكمة اكتفت بتوقيفه ثلاث سنوات وبضعة أشهر، ثم قرّرت إطلاق سراحه، وكأن شيئاً لم يكن. وبالفعل، عاد إلى منزله، وغداً ربما يعود إلى ممارسة العمل السياسي، كما لو أن شيئاً لم يحصل.
في مقابل هذه الواقعة التي دعنا نقول إنه يمكن أن تكون أحكامها ضمن القانون، وتحت مواده القانونية، هناك حالات أقلّ منها شبهةً، بل لا ترقى إلى جزء قليل من هذا الفعل الجرمي، ما زال أصحابها على الشبهة يقبعون في أقبية السجون في أسوأ ظروف، ومن أدنى حقوقٍ للموقوف، إذ يعلم الجميع في لبنان أن عشرات، بل مئات من الشباب من أبناء طرابلس وغيرها، تم توقيفهم وإيداعهم السجون، من دون محاكمات (بعضهم مرّ على توقيفه سنوات ولم يحاكم) لا لشيء إلا لأنهم تلقوا اتصالاً هاتفياً من موقوف آخر، أو لأنهم نقلوا موقوفاً في سيارة خاصة، أو لحيازة سلاح فردي من دون ترخيص في بلد يعتبر غابة أسلحة، أو لغيرها من التهم البسيطة، أو حتى لو كانت كبيرة، ما زالوا يقبعون في أقبية السجون من دون محاكمة، ومن دون إطلاق سراحهم، حتى تحوّلت قضيتهم إلى قضية رأي عام، من دون أن يتمكن أحد من وضع حدٍّ لهذه المأساة عبر إجراء المحاكمات.
يأتي اليوم قرار إطلاق سراح ميشال سماحة، ليكشف حجم غياب المساواة بين اللبنانيين، إذ إن فريقاً يستأثر بالسلطة من ناحيتي الأمن والقضاء، ويستطيع بذلك فتح ملفاتٍ لأي كان، ثم يطوّرها بما يقضي على أي أمل بالحياة الكريمة، فيما يمكن، في المقابل، أن يطوي ملفاً على قدر كبير من الخطورة والمسؤولية، مثل ملف سماحة، من دون أن يعير أي اهتمام لما يمكن أن يلحق البلد من أذى. وهنا، يكتشف اللبنانيون كيف تُطاح سلطة القانون، وكيف تسقط هيبته وهيبة الدولة معه، وكيف تكون الغلبة للقوي، وللسلاح الذي يفعل فعله، من دون الالتفات، لا إلى قانون ولا إلى عدالة. وكيف يتحول بعض اللبنانيين ممن يتجاوز الحدود، ولو وهو يرعى أغنامه، إلى إرهابي يريد تدمير البلد، في حين يغض الطرف عن الذي يتجاوز الحدود، حاملاً المتفجرات ليدمر بها البلد، أو الذي يتجاوزها ليدمر منازل الجيران وراء الحدود، وكيف يتم التعامل معه منقذاً وبطلاً من دون أي اعتبار لما يمكن أن يتولّد جراء هذا السلوك من شعور عند الغالبية العظمى من المواطنين.
هنا، وهنا بالذات، يأتي من يسأل لماذا الإرهاب؟ لماذا التطرف؟ لماذا العداء للدولة؟ لماذا ولماذا لماذا؟ أسئلة يطرحها بعضهم، ليس لأنه لا جواب عليها، بل يطرحها من موقع الاستغراب. من موقع الاستهجان. هل يظن إنسان أن مظلوماً يمكن أن يبقى تحت المظلومية إلى آخر رمق من حياته؟ أو من حياة أبنائه؟ هل يظن إنسان أن حالة القهر التي تحكم مجتمعاتنا لن تولّد سوى الشعور بحب الثأر والانتقام؟ ويسألونك لماذا الإرهاب بعد ذلك! هل يدرك أولئك الذين يتصرّفون بهذا المنطق أنهم يولّدون، في كل حكم من هذه الأحكام والقرارات، آلاف حالات الإحباط التي تقود إلى حب الانتقام؟ وهل يدركون أنهم يخدمون مشاريع تلك الجماعات "المتطرفة" التي يستهويها القتل والذبح والتنكيل؟
أين الحكماء في لبنان؟ وهل لم يعد لهم وجود؟ أين صوت العقل؟ والضمير؟ ألا يدرك السفهاء أنهم يقودون البلاد بهذا الفعل إلى حتفها؟ ألا يدرك هؤلاء أنهم يقضون على ما تبقى من أهل الاعتدال والانفتاح؟ وغداً سيجدون أنفسهم أمام قومٍ لا يفقهون من هذه الحياة سوى حب الانتقام والثأر. وعندها، لا سمح الله، ستتحول البلاد إلى بحيرة من الدماء، عندها سيدخل السواد إلى كل بيت وإلى كل قلب، عندها وعندها فقط سيعي أولئك سوء فعلتهم التي ستقضي على استقرار الوطن، لأنهم لم يعرفوا يوماً ولاءً، ولا حبّاً، لهذا الوطن.
مناسبة الحديث في هذه المقدمة عن استقرار المجتمعات، وما يمكن أن تخلّفه بالنسبة للإنسان، القرار الذي اتخذته محكمة التمييز العسكرية في لبنان بإطلاق سراح الوزير السابق الموقوف لديها، ميشال سماحة، بعد توقيف دام ثلاث سنوات وأربعة أشهر. وللتذكير، فإن توقيف سماحة على يد شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي جرى في حينه، بعد أن ضبط وهو ينقل متفجرات من سورية إلى لبنان، لتفجير إفطارات رمضانية، واغتيال شخصياتٍ دينيةٍ وسياسيةٍ في شمال لبنان، بغرض إشعال فتنة طائفية ومذهبية، وهو ما اعترف به سماحة أمام المحققين وأمام القضاة في المحكمة، وهو ما أظهرته أشرطة الفيديو المسجلة له، في أثناء إعداده تلك المواد المتفجرة، وفي أثناء نقلها، والطلب من أحد الأشخاص تفجيرها. وعلى الرغم من كل هذه الاعترافات والقرائن والأدلة والبراهين، وعلى الرغم من وجود النية الجرمية، وهي إشعال فتنة طائفية، واغتيال شخصيات دينية وسياسية، وعلى الرغم من وقوع كل هذه الأعمال، أو النيات المقرونة بالأدلة تحت بند الإرهاب، فإن المحكمة اكتفت بتوقيفه ثلاث سنوات وبضعة أشهر، ثم قرّرت إطلاق سراحه، وكأن شيئاً لم يكن. وبالفعل، عاد إلى منزله، وغداً ربما يعود إلى ممارسة العمل السياسي، كما لو أن شيئاً لم يحصل.
في مقابل هذه الواقعة التي دعنا نقول إنه يمكن أن تكون أحكامها ضمن القانون، وتحت مواده القانونية، هناك حالات أقلّ منها شبهةً، بل لا ترقى إلى جزء قليل من هذا الفعل الجرمي، ما زال أصحابها على الشبهة يقبعون في أقبية السجون في أسوأ ظروف، ومن أدنى حقوقٍ للموقوف، إذ يعلم الجميع في لبنان أن عشرات، بل مئات من الشباب من أبناء طرابلس وغيرها، تم توقيفهم وإيداعهم السجون، من دون محاكمات (بعضهم مرّ على توقيفه سنوات ولم يحاكم) لا لشيء إلا لأنهم تلقوا اتصالاً هاتفياً من موقوف آخر، أو لأنهم نقلوا موقوفاً في سيارة خاصة، أو لحيازة سلاح فردي من دون ترخيص في بلد يعتبر غابة أسلحة، أو لغيرها من التهم البسيطة، أو حتى لو كانت كبيرة، ما زالوا يقبعون في أقبية السجون من دون محاكمة، ومن دون إطلاق سراحهم، حتى تحوّلت قضيتهم إلى قضية رأي عام، من دون أن يتمكن أحد من وضع حدٍّ لهذه المأساة عبر إجراء المحاكمات.
يأتي اليوم قرار إطلاق سراح ميشال سماحة، ليكشف حجم غياب المساواة بين اللبنانيين، إذ إن فريقاً يستأثر بالسلطة من ناحيتي الأمن والقضاء، ويستطيع بذلك فتح ملفاتٍ لأي كان، ثم يطوّرها بما يقضي على أي أمل بالحياة الكريمة، فيما يمكن، في المقابل، أن يطوي ملفاً على قدر كبير من الخطورة والمسؤولية، مثل ملف سماحة، من دون أن يعير أي اهتمام لما يمكن أن يلحق البلد من أذى. وهنا، يكتشف اللبنانيون كيف تُطاح سلطة القانون، وكيف تسقط هيبته وهيبة الدولة معه، وكيف تكون الغلبة للقوي، وللسلاح الذي يفعل فعله، من دون الالتفات، لا إلى قانون ولا إلى عدالة. وكيف يتحول بعض اللبنانيين ممن يتجاوز الحدود، ولو وهو يرعى أغنامه، إلى إرهابي يريد تدمير البلد، في حين يغض الطرف عن الذي يتجاوز الحدود، حاملاً المتفجرات ليدمر بها البلد، أو الذي يتجاوزها ليدمر منازل الجيران وراء الحدود، وكيف يتم التعامل معه منقذاً وبطلاً من دون أي اعتبار لما يمكن أن يتولّد جراء هذا السلوك من شعور عند الغالبية العظمى من المواطنين.
هنا، وهنا بالذات، يأتي من يسأل لماذا الإرهاب؟ لماذا التطرف؟ لماذا العداء للدولة؟ لماذا ولماذا لماذا؟ أسئلة يطرحها بعضهم، ليس لأنه لا جواب عليها، بل يطرحها من موقع الاستغراب. من موقع الاستهجان. هل يظن إنسان أن مظلوماً يمكن أن يبقى تحت المظلومية إلى آخر رمق من حياته؟ أو من حياة أبنائه؟ هل يظن إنسان أن حالة القهر التي تحكم مجتمعاتنا لن تولّد سوى الشعور بحب الثأر والانتقام؟ ويسألونك لماذا الإرهاب بعد ذلك! هل يدرك أولئك الذين يتصرّفون بهذا المنطق أنهم يولّدون، في كل حكم من هذه الأحكام والقرارات، آلاف حالات الإحباط التي تقود إلى حب الانتقام؟ وهل يدركون أنهم يخدمون مشاريع تلك الجماعات "المتطرفة" التي يستهويها القتل والذبح والتنكيل؟
أين الحكماء في لبنان؟ وهل لم يعد لهم وجود؟ أين صوت العقل؟ والضمير؟ ألا يدرك السفهاء أنهم يقودون البلاد بهذا الفعل إلى حتفها؟ ألا يدرك هؤلاء أنهم يقضون على ما تبقى من أهل الاعتدال والانفتاح؟ وغداً سيجدون أنفسهم أمام قومٍ لا يفقهون من هذه الحياة سوى حب الانتقام والثأر. وعندها، لا سمح الله، ستتحول البلاد إلى بحيرة من الدماء، عندها سيدخل السواد إلى كل بيت وإلى كل قلب، عندها وعندها فقط سيعي أولئك سوء فعلتهم التي ستقضي على استقرار الوطن، لأنهم لم يعرفوا يوماً ولاءً، ولا حبّاً، لهذا الوطن.